الطريق
الخميس 19 سبتمبر 2024 02:47 صـ 15 ربيع أول 1446 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

تامر أفندي يكتب: أولى الناس بالصحبة

تامر أفندي
تامر أفندي

حرفان هما معنى الحياة، ثمة إلاه خلقه الله لك وحدك خصيصاً من بعض صفاته، كان بين كفيه قبس مما في يد الله.

ستتأمل الحرفين ملياً في لحظة ما لتُدرك ما بهما من نعم ومعان ومواقف.. وستتمنى أن تعاود سنوات عمرك مرات لأداء فرائض الإيمان تحت أقدام هذا الإله الذي وضعه الله في حياتك.. ستدرك أن أعظم ابتلاء في الحياة هي لحظة فقد هذا الإله، وأن التحذير الرباني لنبيه ما جاء بهذا الشكل في: «فأما اليتيم فلا تقهر» إلا لعظمة الفقد وشدة الكسر، وستعي أن أم موسى ما كان لها أن تطمئن لتلقي بابنها في اليم إلا بأمر مباشر من الله سمعته بقلبها وأٌذنيها، ستدرك صعوبة اختبار «هاجر» وفجعتها وركضها بين «الصفا والمروة» من فرط بكاء ابنها، وأن «دبدبة إسماعيل وزمزم ما كانت إلا شفقة على أمه»، وستتعلم على مهل ما حملته البتول من معُجزة وعظمة أن يُنسب عيسى لأمه وتباهيه بين قومه ببره: «وبراً بوالدتي».
الأم.. هبة وعطية ربانية البعض منا يدرك عظمتها فيتفانى في لثم قدميها، والبعض يأتيه الإيمان بها في لحظة ما أو في محنة ما، والبعض يركض في الحياة ولا يُدرك ما فاته إلا حين تصطدم رأسه بمقولة السماء: «ماتت التي كٌنا نكرمك من أجلها».

لكل أم ملحمة وكتاب مقدس ولكل ابن حرف وفرح ودمعة مختلفة.. لي صديق أصبح يُشار إليه بالبنان كان مشروع أمه، التي أفنت فيه عمرها، يقول لي أحد أقاربه، أنه حينما بدأ صديقي هذا يظهر على شاشات التلفاز منذ سنوات، كانت أمه تٌخرج "تلفزيون صغير" على "تربيزة خشبية" أمام دارها في قريتها وتدعو الجميع إلى مشاهدة ابنها بقول: "الأستاذ هيطلع دلوقتي في التلفزيون".. سأترك لكم هذا المشهد لتستكملوه كل منكم بخياله..!

لي صديق آخر ودع أمه وهي تبتسم قبل أن يأتيها ملك الموت وخرج مسرعاً من المستشفى ولم يعد من لحظتها إلى الحياة.. ومازال ملك الموت يبحث عنه ليعتذر له عن عدم قبض روحه مع روح أمه..!

أعرف الكثير من الأمهات اللاتي يغضبن إذا نودين بأسمائهن دون أن يقول المنادي «الست أم فلان».. ولا عجب أن تٌضحي بتعريفها واسمها من ضحت بحياتها من أجل صناعة هذا الابن.

يقول لي صديق وقد أخذ ثمار حرفه من غصون بعض الفلاسفة في التعبير عن حبه لأمه: «كل البيوت مظلمة يا صاح حتى تستيقظ الأم، فهي كل شيء في هذه الحياة؛ هي التعزية في الحزن، والرجاء في اليأس، والقوة في الضعف».

وأسكت أنا لأن أمي أعظم من الحرف.. فما أكتبه ويٌعجب البعض أراه لا يرقى لأن يٌشكل كلمة حب أضعها في كف أمي، حتى درويش حينما كتب ترنيمته الخالدة على "علبة كبرت" لم يصعد سوى درجة واحدة في المحبة ولكم من درجات لا تُحصى

خذيني ، إذا عدتُ يوماً
وشاحاً لهُدْبِكْ
وغطّي عظامي بعشب
تعمَّد من طهر كعبك
وشُدّي وثاقي
بخصلة شعر
بخيطٍ يلوَّح في ذيل ثوبك
عساني أصيرُ إلهاً
إلهاً أصيرْ
إذا ما لمستُ قرارة قلبك

«إن أمي لا يمكن أن تكون كبقية الأمهات».. هكذا قال لي إحسان عبد القدوس وأنا أطالعه ليلة أمس، ثم بدأت أسمع صداها في كل الشوارع وأراها مرسومة على كل شفاه المارة.. لم أبُد تعجباً مما قاله «إحسان».. فهزني بعنف قائلاً: «أمي صنعتني بيديها كما صنعت مجدها بيديها.. لا تحمل شهادة مدرسية أو تأهيلاً علمياً ورغم هذا أخرجت جيلاً كاملاً من الكتّاب السياسيين والصحافيين.. هي التي أرشدت أقلامهم».

تساقط الدمع من عينيه وهو يتحدث عن أصعب لحظة في الحياة: «سمعت صوتاً يقول البقية في حياتك.. أحسستُ كأن شفتي قد انفرجتا وانطلقت منهما صرخة: البقية في حياتك؟ هذا التعبير لا يقال لي..! إنه ليس لي حياة إلا مع أمي".

أترك درويش وإحسان ووالدة صديقي التي مازالت تتابع ظهوره في التلفاز حتى بعدما فارق جسدها الحياة وأهرب من عبارات النعي ومرض الأمهات.. وأدندن مع نزار:
أيا أمي
أيا أمي
أنا الولدُ الذي أبحر
ولا زالت بخاطرهِ
تعيشُ عروسةُ السكّر
ليت أمهاتنا تعيش للأبد.. عزائي لمن فقد إلهه: عسى لقاء.. ووصيتي لمن لم يفقد: زد