الطريق
الخميس 19 سبتمبر 2024 06:51 مـ 16 ربيع أول 1446 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

تامر أفندي يكتب: «بوغوص.. ودروس في الضروس»

تامر أفندي
تامر أفندي

في البداية أود أن أشكر الأشخاص السيئون والظروف السيئة والمرحلة السيئة والضروس التالفة، لأنهم أعطوني وقت للتأمل كنوع من الهروب منهم ومن الألم، كان الهرب غايتي.. ثم وجدت فيه متعتي.. ففي الهروب إياب ورجوع واستمرار..
أعدت التفكير أو بدأت التفكير في كل ما كنت أراه سيئاً وما كنت أراه جيداً من بشر وحجر وظروف، ولربما وجدت ما كان سيئاً.. جيداً وما كان جيداً.. كان طبيعياً وغاليت في الشعور به.

أما ثم بعد.. أو.. أما قبل..!.. لا أدري.. حتى ترتيبنا للكلمات والأشياء من الممكن أن يحمل خطأً.. لا نعرف من يتبع ماذا.. أمن يأتٍ أولاً..!.. فهل من يولد أولاً يموت أولاً..!.. ثم هل من يموت أولاً يبعث أولاً..!.. ما جدوى ترتيب الأحداث في سنوات ولدت شائخة وكل صراع أطفال أيامها أن يُعيدوا الجدة صبية ويصيروا هم عجائز.. ثمة عوالم ما زالت خفية بين الممكن.. والجائز والمستحيل.

تؤلمني أسناني.. آهٍ.. لماذا لا تعيش الأسنان حتى نموت؟.. لماذا تسقط واحدة تلو الأخرى..؟ أهو قدرها أم قدرنا.. أم إهمالنا في تدبر خلقها؟.. دعك من نصائح العناية، فلا أحد يعتني بشئ إلا إذا أحبه ولا يأت الحب إلا بمعرفة القيمة.. صحة الأسنان في تدبرها.. أيُعقل بعد كل هذه السنوات وسباقات المعرفة، أن العلم لا يستطيع أن يخلق "واحدة".. الغريب أن هناك منا ما زال يحاج في الله..! ونحن ما زلنا لا نعرف فلسفة وجود الأسنان في فك الإنسان..! وما بين تشخيص الرازي وطب ابن سينا وتوصيف الفرزدق ثمة حكايات تحتاج لساعات.. وأنا قد تركت منذ ثلاثة أيام جنازة «بوغوص» وطلبت من «نوبار» ألا يُكمل المراسم حتى أعود..

فقد كنت أقرأ «مذكرات نوبار» وتوقفت عند وفاة خاله «بوغوص»، رئيس الخزانة في عهد محمد علي باشا، لأذهب إلى طبيب الأسنان، لتركيب طربوش أعود به بالزمان لحضور مراسم تلك الجنازة.
وحينما رجعت ومع أول سطر، سمعت صياح الباشا:«رباه لو كان بوغوص حياً لأخرجني من تلك المحنة».. فظننت أنه يتحدث عما نحن فيه.. فقلت له: «والله ياباشا لا بوغوص ولا أبو بوغوص يقدر».
سمع الحارس صيحة «الباشا» فظن أن أمره انكشف، وكان هذا الحارس كٌلف بقتل «بوغوص» لكنه حمل له جميلاً سابقاً، فهربه واعترف للباشا طالباً الرحمة.. فتهللت أسارير الباشا، وطلب من الجندي سرعة إحضاره.
ارتديت ملابسي مسرعاً واستقليت «الأتوبيس الترددي» ووصلت مع الحارس حيث يختبئ «بوغوص» في إحدى المنتجعات السياحية، وقلت له: «يا عم بوغوص.. بالله عليك قبل أن تذهب لمحمد علي باشا، أُريد أن أسألك كيف نخرج من عنق الزجاجة، وما رأيك في صندوق النقد الدولي؟.. كيف بنى محمد علي مصر الحديثة دون اقتراض! وما رأيك في التنمية المستدامة ومصانع تدوير القمامة؟».

امتعض «بوغوص» وصاح: أظنني عشت من الزمن ما يكفي لأرى أن أجيالاً لم تأخذ من تاريخ محمد علي غير فترة مرضه وهذيانه، لذا كان يجب على تلك البلاد أن يتبدل حالها.. وياليتها تعلمت من قدراته وذكائه الفذ.

«على العموم الله يرحمك يا عم بوغوص مطرح ما أنت نايم.. لم يقف التحريف عند التاريخ حتى الأسماء تم تحريفها.. بس برضه ما جاوبتنيش على أسئلتي»؟.

عم بوغوص: يا بني سيبني اندفن بقى بقالك 3 أيام "موقف الجنازة".. روح اسأل الباشا؟.

أنا: أروح له فين يا عم بوغوص؟

عم بوغوص: ميدان المؤسسة.. عند مستشفى النيل.

لم يعمل بعد «المونوريل».. فاستقليت السيارة «الواز» ووصلت إلى هناك وسألت عن الباشا.. فأشار لي بائع الشاي على تمثال بجوار الكوبري نحمد الله أنه لم يتم إزالته في توسعة الطريق..

سألته.. ياباشا يُطعموننا الزيف.. ويحملوننا الذنب والدين؟.. فأجاب بصمته: قد فعلت ما لم أقطع به وعداً.. وقد أضعتم ما قطعتم به من وعود..
رحم الله «صوتر»، الذي أنقذ مصر من الفوضى وحشرجة الموت، ثم نفخ فيها من روحه فأحياها، ثم فتح أمامها أبواب السعادة، فاستحق عن جدارة التعريف الجميل الذي أقرنه باسمه، عارفو الفضل من معاصريه «محبي الديار وأبو مصر الحديثة».

قبل أن انصرف نظرت إلى فك محمد علي فوجدته قد فقد أسنانه..!.