الطريق
الخميس 19 سبتمبر 2024 06:39 مـ 16 ربيع أول 1446 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

تامر أفندي يكتب: رشفات من القهوة المُرة

تامر أفندي
تامر أفندي

أحبها بطبيعتها دون مذاق مُحلى.. مِلاح هي الأشياء دون ملحٍ ولا سكاكر.
أفرك عيني لأنبهها بأن يوم جديد قد بدأ وأتمتم في غير مبالاة:

عاد النهار
ككل نهار
ووجه السماء قد احترق
عاد النهار
بجيفة حلمي
بكثب ولهب

ارتدي ملابسي في عُجالة وأخلط الفول على الطعمية غير عابئ بُجهد صاحب "القدرة" طيلة الليل لفصلهما لتقديم صنفين للزبون من نفس الشئ بطعمين مختلفين وإن لم يكن فبشكلين مختلفين.

أذهب مُسرعا إلى المقهى حيث اللقاء الأهم في يومي أنا ورشفات من فنجان القهوة المُر.. قبل أن يأت عامل المقهى "بالكنكة والفنجان" أعاود التمتمة:

عاد النهار
بنسر الأرق
بنفس الجحود
ونفس الخطأ
عاد النهار
وهل من جديد؟
هل من وريد تخرج منه بذور الورود!

أول رشفة
ذهب معها ذهني إلى الحدث الأهم الآن، مسرحية "الثانوية العامة" التي تُعاد كل عام في هذا التوقيت حتى باتت كالأفلام الهندي التي كنا نشاهدها فيما مضى بنفس الحماسة والانفعال، أو كالمسرحيات ذاتها التي تُعاد منذ أن ولدنا في نفس المناسبات، وقرأت النصائح التي يصوغها كل عام نفس الأشخاص أو ينسخوها من ذاكرة "مارك" وشاهدت الأهازيج والنحيب والكوميكسات والحديث الدائم عن تطوير التعليم.. وسمعت همهمات الناس عن أن ما يحدث في التعليم كما يحدث من حرائق سوق العتبة بُغية نقله إلى خارج القاهرة حيث أماكن الجامعات الخاصة.. وتيقنت أن حديثنا عن إحياء المشروع الأهم "هراء" لا فائدة من كثرة التطرق إليه.. إذ أن "الفيس" برغم سوءاته، أظهر جلياً الصورة الحقيقية لما عشناه من فساد لسنوات، فبات الأمر أشبه بما جرى في مسرحية "حكيم عيون" للفنان الراحل علاء ولي الدين، حينما كان "تمرجياً" وخدع والده أنه طبيب وحينما زاره والده في العيادة وقع في ورطة، فجائه الحل السهل من صديقه "سهلة جدا البس البالطو تبقى دكتور"، وأخذ علاء ولي الدين بالنصيحة وقال:" ياه ده الموضوع طلع سهل جدا"، الغش لم يتوقف على مشهد في مسرحية ضحكنا عليها، بل امتد ليصبح نهج حياة وجد من يدافع عنه.

الرشفة الثانية
أقول والقهوة تسري في العروق:
عاد النهار
وهل من جديد؟
سوى بعض الوعود
وكأس وعود
ووجه حديد
يرقص كالموت
فوق بقايا النشيد

على ذكر مسرحية" حكيم عيون" تذكرت واقعة لأحد الزملاء الصحفيين الذي ببضع جنيهات وبجرة قلم جعل محام، خبير علاقات دولية ومحلل سياسي ومفكر كبير ورجل ذو قدر وصيت يهنئ ويعزي ويتحدث في السياسة والاقتصاد.

الرشفة الثالثة
قال لي عامل المقهى أن مصاريف الجامعات الخاصة "نزلت بالزيادة" فسألته عن مصدر المعلومة، فقال لي إن موظفوا الأحياء رفعوا الإكرامية لأن أبنائهم سيدخلوا جامعات خاصة، وتبسم وقال لي: "وإحنا كمان هنزود المشاريب حاجة بسيطة علشان عندي الواد جامعة خاصة"، .. انفعل أحد الزبائن وقال: "طب واللي مش شغال في الحي ولا قهوجي وممعهوش يعمل إيه؟".. جاءه الرد من آخر قائلاً: "يدخل ابنه أي كلية ولما يتخرج يشتغل مدرس"..آثارت إجابة الرجل شغفي فاستدرت لأساله: "مدرس إزاي؟.. هو بقى فيه تعينات؟".. فتبسم وقال: "مدرس حر يا أستاذ.. أنا خريج معهد خدمة اجتماعية ومدرس أحياء".. تبسمت وقلت له: "ولكم في مصر من مضحكات.. ولكنها مضحكات بطعم البكاء".

الرشفة الرابعة

سرحت بعقلي وأنا أقول:

عاد النهار
ليسرق فينا ضوء النهار
فأشعر أني فقدت الحياة ولا أستغيث!

يأخذني خيالي إلى الغد لأرى المحافظ الذي يُكرم خريج الهندسة، الذي يعمل على عربة طعام، والأستاذ الذي يعمل قهوجي، وطابور الأطباء أمام مصلحة الجوازات.. ثم انتبه وأنا اقرأ بوست للأستاذ أنور الهواري عن الدكتور حسن نافعة بينما كان مؤشر الراديو على حفلة حسن شاكوش.. أتذكر الجملة التي كان دائماً ما يرددها أستاذي على مسامعي" كل واحد هياخد جزاؤه في الوقت المناسب".. فابتسم وأقول بحسم لنفسي: "حتى وإن جاء هذا الوقت فلن يكون مناسباً!".

الرشفة الخامسة
أعود بذاكرتي إلى أهل قريتي الكرام، فمن سنوات ليست بالكثيرة، تدافع أهلنا الطيبين لجمع تبرعات لشراء قطعتي أرض لبناء مدرستين جديدتين، بدعوى أن مجمع المدارس الموجود لم يعد يستوعب التلاميذ، فكثافة الفصول على الورق 60 طالباً لكن نسبة الحضور طيلة العام لا تتعد الـ10%، المشروع آنذاك كان مشروعاً قومياً وانتخابياً وحماسياً لدرجة أن أي صوت مُعارض للفكرة كان يتم التنكيل "به وباللي جابوه" على صفحات "الفيس"، وتعتبره لجنة قيادة الثورة التعليمية في القرية عدواً للتنوير، تم الأمر وبارت الأرض وشرعنا في بناء ضريحين جديدين ليُضافا إلى بقية الأضرحة.. لكنها حتى أضرحة بلا أولياء.. ولا مدد ولا مداد.

الرشفة السادسة
تهللت أساريري حينما أتوا لنا في إحدى الصحف التي عملت بها برجل ستيني، كان رئيس تحرير لأكثر من إصدار عريق، فقلت هذا الرجل من "روايح تعليم زمان" فبجلته وقدرته حتى خلط بين الهاء والتاء المربوطة، فقلت له: "اسندها لضمير"، فبحث في سنوات عمره لم يجده..!

الرشفة السابعة
آخر رشفة.. لا عليك من كل ما سبق فلا أعرف ما جدوى ما أكتب وما تقرأ.. لكن المُشكلة أن عامل المقهى حاسبني على مشاريب كل "الزبائن".. لأنهم انصرفوا جميعاً بينما ظللت أنا أتحدث إلى نفسي مع رشفات القهوة المُرة.

موضوعات متعلقة