ياسر أيوب يكتب: الأهلى والزمالك والثيران فى بامبيلونا

"من كتاب بلاد على ورق"سيختلف الناس فى رؤيتهم لأى مدينة فى العالم أو حديثهم عنها .. سيكون هناك من يرى جمالها ويحبها ويحب أن يراها أو يتمنى العودة إليها بعد أن رآها .. وهناك فى المقابل من لا يرى إلا قبحها ويكرهها أو يخاف منها ومن أهلها .. لكن تبقى بامبيلونا الإسبانية من مدن قليلة فى العالم لا يختلف الناس حولها وما قد يقولونه عنها .. فهى مدينة لا كوريدا تي توروس أو مصارعة الثيران الأهم والأشهر فى إسبانيا والعالم كله .. تجرى فى شوارعها الثيران كل سنة احتفالا بذكرى القديس فيرمين .. وأمام الثيران ومعها وخلفها يجرى الناس إلى بلازا دى توروس أو حلبة المصارعة حيث ينتظرها الماتادور أو مصارع الثيران لتبدأ لعبة الدم التى تنتهى غالبا بدماء الثور وأحيانا بدماء الماتادور .. ورغم أن مهرجان سان فيرمين بدأ 1591 إلا أن الأديب الأمريكى الشهير إرنست هيمنجواى هو الذى أجبر العالم على الإلتفات لبامبيلونا وثيرانها عبر رواية وكتاب .. الرواية بعنوان الشمس تشرق أيضا وكتبها هيمنجواى 1926 .. والكتاب بعنوان موت فى الظهيرة وألفه هيمنجواى 1932 .. ورغم أننى قرأت الرواية والكتاب مثل كثيرين جدا وأعدت مثلهم بعد القراءة تأمل مصارعة الثيران وتاريخها وحكاياتها .. إلا أننى اختلفت فيما بعد مع هيمنجواى والعالم كله حيث لم تعد بامبيلونا بالنسبة لى مدينة الثيران فقط .. إنما أصبحت مدينة اوروبية وحيدة استضافت الزمالك والأهلى فى أيام قليلة متتالية .. مدينة كان الزمالك هو أول ناد مصرى يزورها ثم أصبح الأهلى أول ناد يلعب فيها كرة القدم
ولأننى كنت مع الناديين الكبيرين أثناء رحلتيهما لبامبيلونا فى أغسطس 2004 .. فقد رأيت المدينة الصغيرة أربع مرات .. مع إبراهيم يوسف مدير الكرة بالزمالك .. وثابت البطل مدير الكرة فى الأهلى .. ومدير فنى جديد للزمالك هو دراجوسلاف شتيبى .. ومانويل جوزيه المدير الفنى للأهلى .. فقد كان من المفترض أن يستقر الزمالك فى مدينة سان سباستيان حيث سيلعب هناك أمام ريال سوسيداد .. لكن ازدحام فنادق المدينة أجبر الزمالك على البقاء يومين فى بامبيلونا قبل العودة إلى سان سيباستيان .. لكن المشكلة الحقيقية كانت تخلف حقائب بعثة الزمالك وقدمت شركة طيران أيبيريا الإسبانية اعتذارها ووعدها بوصول الحقائب فى اليوم التالى .. والمفاجأة كانت قرار إيزابيلا مديرة العلاقات العامة لنادى ريال سوسيداد بمجرد علمها بتخلف حقائب بعثة الزمالك أن تأتى بسيارتها من سان سباستيان إلى بامبيلونا ومعها أطقم ملابس ريال سوسيداد لكل لاعبى الزمالك حتى يواصلوا تدريباتهم إلى حين وصول حقائبهم .. وقام إبراهيم يوسف بتجربة الثياب وكذلك عادل المأمور .. وحين ارتدى حازم إمام ثياب ريال سوسيداد .. اقترحت على إبراهيم يوسف وكان صديقا عزيزا جدا أن أكتب فى الأهرام عن تعاقد ريال سوسيداد مع حازم إمام .. فضحك قائلا .. هى ناقصة كمان حازم يمشى
ولم يهتم إبراهيم يوسف بشوارع بامبيلونا الضيقة المتعرجة المرصوفة بالحصى المخصصة للمشاة وسط مبان عمرها مئات السنين .. بيوت قام أهل المدينة بترميمها وليس استبدالها بمبان حديثة وامتزجت بألوان ثياب حديثة يرتديها أهل المدينة .. فقد كان مهموما بأزمة الحقائب ومهموما أكثر بعودته مديرا للكرة فى نادى الزمالك بعد غياب عن كرة القدم أربع سنوات .. وأراد النجاح مديرا للكرة بعد نجاحه الكبير كنجم للزمالك والكرة المصرية حيث كانت بامبيلونا هى مهمته الإدارية الأولى .. وسألته عن الفارق بين سفره مع الزمالك لاعبا وسفره الآن مديرا للكرة فقال أنها الآن مهمة أكثر إمتاعا .. فتجربة اللاعب تبقى ذاتية لكن المدير يحمل مسئولية الفريق بأكمله .. وقال أيضا أنه يتمنى أن تصبح بامبيلونا بداية لوفاق جديد بين الزمالك والأهلى وإنهاء هذا الصراع السخيف بين أكبر ناديين فى مصر والعالم العربى .. وأصر دراجوسلاف شتيبى أن يجلس بجوارى وأنا اكتب رسالة الأهرام وتخيلت فى البداية أنه يعرف اللغة العربية .. لكنه قال أنه سيتعلمها معى إلى جانب اللغات التى يجيدها ومنها الإسبانية حيث يملك هو وزوجته إيلينا بيتا جميلا فى مدينة إيبيزا جنوب إسبانيا اشتراه حين كان مديرا فنيا لنادى أتلتيكو بيلباو .. وحين جاء فريق الأهلى بعد سفر الزمالك لسان سباستيان .. لم يخرج ثابت البطل لشوارع بامبيلونا إلا لشراء ما سيحتاج إليه لاعبوه ووقف كثيرا فى مطبخ الفندق يشرف على إعداد طعام الفريق ثم جلس معظم الوقت فى بهو الفندق منشغلا بدمج اللاعبين الجدد الذين انضموا للأهلى .. عماد النحاس وبركات وإسلام الشاطر .. ورغم انشغاله كنت أتحدث معه كثيرا بحكم صداقة حقيقية جمعتنى به لسنوات .. وكان ياسر إدريس رئيس بعثة الزمالك وإبراهيم المعلم رئيس بعثة الأهلى والجميع سعداء بهذا الوجود المصرى الكروى المشترك فى إسبانيا ونجاح هشام الخشن فى فتح أبواب إسبانيا أمام الأهلى والزمالك وأصبح أول من يستطيع جمع الناديين الكبيرين فى مدينة واحدة
أما مانويل جوزيه .. الذى شكرنى فى البداية على ما كتبته فى الأهرام الرياضى عن لقائى معه ومع فينجادا على مائدة عشاء فى بيت عمرو السعيد فى القاهرة .. وأنه سعيد بما كتبته بعد ترجمته له .. فكان هو الذى رأيت معه مدينة بامبيلونا ومشيت معه فى شوارعها وميادينها نتحدث عن الحياة وكرة القدم والسينما والأغانى والفلسفة التى يعشقها مانويل جوزيه .. وقد أحضر معه حقيبة صغيرة مليئة بكتب بعضها باللغة الإنجليزية ورفض بإصرار أن أستعير أيا منها لقراءته رغم أنه طلب أن يستعير منى كتابا أخذته من إبراهيم المعلم حين ذهبت مع هشام الخشن لنعود بفريق الأهلى من مطار بلباو إلى بامبيلونا .. الكتاب كان لصحفى أمريكى اسمه فرانكلين بوير وعنوانه كان كيف يمكن فهم العالم من خلال كرة القدم .. وبالطبع رفضت طلب مانويل جوزيه عملا بقاعدة العين بالعين والبادى أظلم .. ولم يغضب مانويل جوزيه وبعد تصفح الكتاب ضحك وقال لى أنه بدأ يخاف لأننى بعد قراءة الكتاب قد أحترف التدريب وأصبح منافسا له .. وقلت له أننى لا أصلح أصلا لتدريب كرة القدم لكن بإمكانى إقناعه مؤقتا بنسيان كرة القدم ونسير معا نتحدث عن بامبيلونا وأهلها ومعالمها وعن الثيران وحكاياتها .. المدينة التى تحولت من قرية صغيرة قبل ميلاد المسيح إلى مدينة اشتهرت بصناعة الفخار والصنادل والنبيذ والحبال .. ثم أصبحت بفضل الثيران مدينة سياحية أيضا فى شمال إسبانيا تبعد 400 كيلومتراعن مدريد العاصمة
وكان ميدان ديل كاستيلو هو بداية رحلتى مع مانويل جوزيه لاكتشاف بامبيلونا .. أكبر ساحات بامبيلونا وتقع فى قلب المدينة وتشهد كل احتفالات أهل المدينة فى مختلف مناسباتهم وأعيادهم .. وفى هذه الساحة المبانى القدينة والمقاهى الجميلة القادرة على مزج التاريخ بفناجين القهوة ومطاعم تكتفى بالأطباق التقليدية لأهل الباسك .. وكانت حتى القرن الثامن عشر هى أيضا ساحة مصارعة الثيران قبل انتقالها إلى بلازا دى توروس أو باسيو دى هيمنجواى تكريما للأديب الأمريكى العالمى الذى ساعد المدينة على اكتساب شهرتها ومكانتها .. وقد بدات مصارعة الثيران بشكلها الحالى قبل 300 سنة وشهدت طول الوقت صراعا بين من يرونها تراثا إسبانيا ينبغى المحافظة عليه واعتقدوا أنها لعبة لها الكثير من المعانى وأشهر هؤلاء كانوا هيمنجواى وبيكاسو والشاعر الكبير لوركا وكانت موضوعا لكثير من الأفلام والأغانى والكتب والروايات .. وفى المقابل ظل هناك من يرونها لعبة الدم التى لا داعى لها .. ففى السنين الطويلة منذ بدأت مصارعة الثيران مات أكثر من 533 ماتادور مقابل آلاف الثيران وتساءل أعداء اللعبة عن الجمال أو المتعة فى مشاهدة انسان يطارد ثورا ينزف كل منهما دماءه وقد يموت أحدهما فى النهاية .. ويقام مهرجان بامبيلونا لعدة أيام فى شهر يوليو كل عام .. ولم يعد يقتصر على مصارعة الثيران داخل الحلبة .. فبعد وقت طويل كان فيه تجار الثيران يحملون هم نقلها إلى الحلبة .. بدأوا يطلقونها تجرى فى شوارع بامبيلونا فى اتجاه الحلبة .. وبدأ أهل بامبيلونا يشاهدون أولا الثيران وهى تجرى وبعد قليل بداوا يجرون خلفها ثم تطور الأمر ليجروا أمامها وحولها فى مشهد لا تعرفه أى مدينة أخرى فى العالم .. ومع الجرى خلف وأمام الثيران .. يشهد المهرجان أيضا استعراضات حية وأغانى كلاسيكية وحديثة ورقصات إسبانية تقليدية .. ويأتى كثيرون من مختلف بلدان العالم ليجروا خلف الثيران مع أهل بامبيلونا ويشاركونهم الرقص والغناء طيلة أيام المهرجان الذى مثلما له بهجته ومتعته .. له أيضا مصابيه وضحاياه الذين يسقطون اثناء الجرى تحت أقدام الثيران
وكان آل سادار هو المكان الوحيد الذى لم أذهب إليه مع مانويل جوزيه .. فهو الاستاد الذى استضاف مباراة الأهلى امام أوساسونا أو النادى الكروى الذى تملكه وتلتف جوله مدينة بامبيلونا .. وكان مانويل جوزيه مع الأهلى فى الملعب وبقيت أنا فى المدرجات مع اهل بامبيلونا الذين جاءوا لمشاهدة فريقهم والاطمئنان عليه قبل بدء الموسم الجديد .. وأيضا لتجربة نظام جديد هو دخول الاستاد بالبطاقات الممغنطة وكانت مواجهة الأهلى هى التجربة الأولى هذا الاستاد .. وفاز أوساسونا بالمباراة بهدف وحيد فى الشوط الثانى .. وكان الجمهور سعيدا بهذا الفوز وقال لى أحدهم ضاحكا أنه سعيد بفوز أوساسونا على الأهلى الذى فاز على ريال مدريد .. وبنهاية المباراة انتهت الرحلة إلى بامبيلونا .. المدينة التى يصعب نسيان أيامها ولياليها والرحلة التى كانت مجرد بداية لدخول عالم مصارعة الثيران الغريب بكل ما فيه من جنون وتحدى ودماء وخوف وشجاعة أيضا .. وليس غريبا أن يطلق الإسبان وغير الإسبان لقب ماتادور على أى رجل شجاع أو لاعب كرة قوى واى انسان لا يخاف المواجهة والتحدى مهما كان الثمن.