الطريق
السبت 19 أبريل 2025 07:03 صـ 21 شوال 1446 هـ
جريدة الطريق
رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس التحريرمحمد رجب
عبد الحليم قنديل يكتب: عودة لسلاح المقاومة يحيى الفخراني يتوّج “شخصية العام الثقافية” في احتفالية كبرى للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بالرباط الدكتورة غادة جبارة رئيس أكاديمية الفنون توقع برتوكول تعاون مع جامعة عفت بالمملكة العربية السعودية الرقص الحديث تستلهم أولاد حارتنا وشهرزاد فى عرض البصاصين على مسرح الجمهورية ”أنقذوا الأطفال”: إغلاق المخابز والمستشفيات في غزة ونقص حاد في المساعدات الإنسانية فيديو| ضياء رشوان: مصر القوة العسكرية الأكبر في المنطقة والجهود مستمرة لوقف حرب غزة زينب مأمون تفوز بعضوية المكتب التنفيذي للاتحاد العربي للكيك بوكسينج بالصور| المهندس مدحت بركات يفتتح مقر حزب أبناء مصر بالإسكندرية شحاته زكريا يكتب الرئيس السيسي في الخليج.. تثبيت التحالفات وترسيخ أركان الاستقرار ”الشباب والرياضة ” تنظم ندوة توعوية ضمن مبادرة ”شباب على خطى النور” بمحافظة بورسعيد وزير البترول والثروة المعدنية يلتقي نائب رئيس شركة بريتش بتروليوم ”بي بي” للغاز والطاقة منخفضة الكربون نائب وزير الصحة يتفقد عددًا من المستشفيات بمحافظة الإسكندرية.. ويوصي بصرف مكافأة للمتميزين

الذهب والشموع والدموع في براج

نهر وجسر وكثير من الشموع والدموع .. كانوا أول ما رأيته فى مدينة براج التى ذهبت إليها 1998 يسبقنى فضول ورغبة فى رؤية مدينة ارتبط اسمها بكثير من الألقاب .. فهى المدينة الذهبية .. وعاصمة الأبراج .. وقلب أوروبا .. لكننى فى أول ليلة لى فى براج .. نسيت الذهب والأبراج وقلب أوروبا حين رأيت كثيرين يسيرون على جسر الملك شارل فوق نهر فالتافا يمسكون بشموع فى أيديهم يحتفلون بذكرى ربيع براج .. وأصبحت دموعهم أرق وأصدق تحية لكل الذين ماتوا منذ ثلاثين عاما حين اجتاحت الدبابات السوفيتية مدينتهم للقضاء على ثورة قادها الكساندر دوبتشيك لتحرير تشيكوشلوفاكيا من الهيمنة والسيطرة السوفيتية .. ففى أغسطس 1968 .. فوجئت براج وأهلها بأكثر من 4000 دبابة سوفيتية ومعها 165 ألف جندى سوفييتى غير ضباط وجنود وسلاح من بولندا والمجر وألمانيا الشرقية
جاء كل هؤلاء بدباباتهم وسلاحهم وأحذيتهم الثقيلة فقط ليقتلوا حلم براج بالحرية .. فقد اختار دوبتشيك حرية الحياة والكلام والإعلام .. حرية السياسة والاقتصاد والتجارة .. وخافت موسكو لو سمحت لبراج بذلك أن ينفرط عقد الشرق الأوروبى الذى تحكمه وتملكه وتقوده موسكو .. وأنه لو نجحت براج فى تحقيق حلمها بالحرية فستحلم بها مدن أخرى كثيرة مثل برلين ووارسو وبودابست وبوخارست وصوفيا ومدن أخرى كثيرة .. فكان من الضرورى إسكات صوت براج وقتل حلمها أن يكتمل .. ودفع 120 من أهل براج حياتهم ثمنا لهذا الحلم الذى سحقته الدبابات غير الذين سالت دماؤهم وكثرت جروحهم ومن تم اعتقالهم وتعذيبهم .. ولم تنس براج ما جرى .. لا زالت تتذكره وتحتفل به كل سنة تكريما لبراج التى قالت لا كأول مدينة فى الشرق الأوربى تحاول كسر قيودها وتحلم بالحرية وتدفع ثمنها أيضا
ولم تكتف براج بهذا المشهد الذى استقبلتنى به .. إنما أضافت شركة مرسيدس صاحبة الدعوة ما جعل رحلة براج شديدة العمق والخصوصية .. فغير المرشدة السياحية التى ستطوف بكل ضيوف الشركة الكبيرة أهم وأشهر معالم براج .. كان هناك السائق الذى كان بالنسبة لى أهم من المرشدة رغم كل الاحترام لرقيها وثقافتها وابتسامتها واستفادتى من حكاياتها .. فالمرشدة كانت تحكى عن الحجر والسائق لا يحكى إلا عن البشر .. جلست معه كثيرا ومع آخرين غيره ورأيتهم يختصرون الكثير من الصفات الجماعية لأهل براج .. السلام الداخلى والقدرة على التسامح والتعايش مع الأيام بفرحتها ومرارتها .. فى قلب وعقل كل منهم مدينة تأسست 870 .. وأصبحت مقر ملوك الرومان 1085 .. وعاصمة للدولة الرومانية المقدسة 1346 .. واحتلها السويديون 1648 ثم الفرنسيون 1741 ثم الألمان 1744 .. وأصبحت عاصمة لتشيكوسلوفاكيا 1918 .. واحتلها النازيون 1939 وسيطر عليها الشيوعيون 1948 ثم قادت لثورة عليهم 1989 .. وأصبحت فى 1993 عاصمة دولة جديدة اسمها جمهورية التشيك
عاشت براج المجد مع الرومان وبوهيميا وعرفت القهر والحزن مع النازيين والشيوعيين .. وطول الوقت كانت مدينة مهمة وجميلة تستحق من أجلها الحرب .. ووسط كل هذا التاريخ .. لم تغب مصر التى استقبلت ابن براج ولاعب تنس اسمه ياروسلاف دروبنى حتى رفض البقاء بعد استسلام مدينته وبلاده للشيوعيين .. ولم يجد دروبنى بلدا تستقبله إلا مصر ومنحه الملك فاروق الجنسية المصرية فى 1950 وبدأ يشارك فى بطولات التنس كلاعب مصرى .. ونجح فى أن يكتب اسم مصر فى قائمة البلدان الفائزة ببطولات التنس الكبرى حيث فاز كلاعب مصرى ببطولة رولان جاروس 1951 و1952 وبطولة ويمبلدون 1954 .. غير صفقة الأسلحة التشيكية التى كانت أول صفقة سلاح لمصر بعد ثورة يوليو 1952 .. ومحلات باتا للأحذية التى أسسها ثلاثة أشقاء فى التشيك .. توماس باتا وشقيقه انطوان وشقيقته آنا .. وكانت باتا منذ أكثر من خمسين عاما هى الحذاء شبه الرسمى للرياضيين فى مصر وشباب وفتيات وأولاد كثيرين
ومع السائق كانت حبيبته الغجرية .. ونجحت بصحبة الإثنين فى رؤية أكثر من وجه لبراج .. وكانت الفتاة الغجرية الجميلة تتخيل أننى أريد شراء أيا من منتجات وأشكال الكريستال الذى تتميز به دولة التشيك وتشتهر به محلات براج وأنها تستطيع مساعدتى فى شراء ما أريده بسعر أرخص كثيرا من المحلات .. فالناس فى التشيك .. أو بوهيميا تحديدا .. بدأوا صناعة الكريستال 1763 وتفوقوا فيها سبقوا العالم كله .. وباتوا الآن يملكون مئات الورش لتصنيع الكريستال بمختلف الأشكال والأنواع والأحجام ليباع فى محلات وشوارع براج حتى أصبح الكريستال أحد مصادر الدخل للتشيك .. وفوجئت الفتاة الغجرية بأننى لا أريد إلا رؤية براج وأن أتحدث معها ومع حبيبها عن هذه المدينة وأهلها بعد ما رأيت مع المرشدة السياحية معالم براج وعرفت الكثير من حكاياتها
ويبقى جسر الملك شارل أشهر وأجمل ما فى براج .. فهو أحد أقدم جسور الحجر فى أوروبا وتم بناؤه منذ 700 عام ولم يعد فقط رمزا للمدينة .. إنما بقى شاهدا على كل ما عاشته براج من حروب وخراب ودمار تسبب فيه غضب الأرض أحيانا وغضب االبشر غالبا .. وأصبح أيضا شاهدا على معظم حكايات الحب فى براج .. فكثير من عشاق براج يحبون أن تبدأ حكاياتهم فوق هذا الجسر الذى على جانبيه 30 تمثالا من عصر النهضة وأمامهم يقف فنانون يعزفون الموسيقى .. فالموسيقى ليست من الكماليات فى براج .. ففى 1620 .. استعادت أسرة هابسبورج الكاثوليكية مدينة براج من النبلاء البروتسانت .. ولكى تجبر هابسبورج أهل براج وبوهيميا كلهاعلى التحول للكاثوليكية .. أجبرت الصغار على تعلم موسيقى الكنيسة الكاثوليكية فى المدارس وأصبح شبه إلزام دام سنينا طويلة جدا لتصبح براج بالفعل مدينة موسيقية لدرجة أن يلقى فيها موتسارت ترحيبا واهتماما لم يجدهما فى بلده النمسا أو أى مدينة أوروبية أخرى .. وألف موتسارت السيمفونية 38 التى حملت اسم براج .. ثم قدم فيها لأول مرة أوبرا دون جيوفانى .. ولم تنجح أوبرا زواج فيجارو إلا فى براج .. وأصبح من الطبيعى حتى الآن أن تسمع الموسيقى طول الوقت وفى أى مكان فى براج .. وأن تتعلم أيضا ضرورة الموسيقى وجمالها ومعنى أن تقع فى حبها
وليست براج مدينة استثنائية فى الموسيقى فقط .. لكنها استثنائية أيضا كإحدى المدن القليلة التى احتفظت بمعالمها اثناء الحرب العالمية الثانية .. وتم اعتبارها شاهدة على أوروبا مثلما كانت وعاشت قبل الحرب .. ومن المدن القليلة التى اعتبرتها اليونسكو من تراث العالم وليس بعض معالمها وأجزائها .. فقد احتفظت براج ببيوتها القديمة وشوارعها المغسولة بالمطر .. حافظت على 437 برجا وأقدم قاعة بلدية وأقدم ساعة فلكية لا تزال تعمل .. وقلاعها وأهمها وأجملها قلعة هارواكانى التى بناها رودولف الثانى منذ ألف سنة ولا تزال حتى الآن مقرا للحكم .. وأسس بجوارها شارعا فيه بيوت صغيرة متلاصقة أقام فيها كيميائيون يحاولون تحقيق الحلم الإمبراطورى بتحويل الرصاص إلى ذهب ..ولم يتحقق الحلم لكن بقى الشارع وامتلأ بمحال لبيع الهدايا الغالية .. وكان يقيم فيه الأديب فرانز كافكا الذى كانت قراءته والإعجاب به شرطا أساسيا لاكتساب أى مصرى لقب المثقف .. ولا أخجل من الاعتراف بعدم حب أو فهم كافكا بعكس الحال مع آخرين العالم النفسى مثل سيجموند فرويد والمخرج الكبير ميلوش فورمان الذى هرب من براج بعد احتلال النازيين لها إلى أمريكا وقدم لهوليوود بعض أجمل أفلامها مثل طار فوق عش المجانين وأماديوس والشعب ضد لارى فلينت .. وأيضا الأديب فاتسلاف هافل الذى قاد فى 1989 ثورة تشيكوسلوفاكيا ضد الحكم الشيوعى وأصبح أول أديب كبير يتولى رئاسة بلاده ثم أصبح فى 1993 أول رئيس لدولة التشيك بعد انفصالها عن سلوفاكيا .. ولم تمنعه الرئاسة من ارتداء الجينز والخروج من القلعة للسهر مع أصدقائه فى مقاهى براج حتى ابتعد عن الرئاسة مكتفيا بالكتابة والبحث عن السلام للجميع
وما بين ساحة وينسيلاس فى قلب براج ساحة المدينة القديمة .. تفتح براج أبوابها لأهلها وزوارها وعشاقها ولا تبخل على أى أحد بجمال معالمها وسحر موسيقاها وصفاء لياليها .. ولم يكن مفاجئا أن يختارها كثيرون عاصمة للحب الذى هو أغلى من الذهب وأصفى من الكريستال .. وأن تختارها هوليوود كأكثر مدينة أوروبية يجرى فيها تصوير أفلام أمريكية .. فمن الصعب أن يجتمع فى مدينة واحدة الأرستقراطيون والمجانين .. النبلاء والصعاليك .. السيارات الحديثة الغالية وعربات تجرها الخيول .. التاريخ والمستقبل .. الأميرات وبائعات الهوى .. حتى الغجر .. لا يعانون فى براج والتشيك كلها ما يعانيه غجر رومانيا وصربيا وبلغاريا .. وأصبح الغجر فى براج يعيش معظمهم حياة عادية وطبيعية دون خوف وتهديد وتمييز .. كل الناس وليس الغجر فقط .. فتحت سماء براج أى فرحة موجودة .. وكل الأحلام ممكنة .. حتى ذكرى اجتياح الدبابات الروسية لبراج حملت اسم ربيع براج .. فرغم الدم والألم والجروح القديمة .. تنتصر براج دائما .. عاشقة الحياة والحب والأحلام والأيام