تامر أفندي يكتب: سلسال المدد والدم من ”عثمان إلى اليوم”

ذكرنا في الحلقة السابقة بعضًا مما اتخذه المتآمرون ذريعة لقتل ثالث الخلفاء الراشدين، عثمان بن عفان، رضي الله عنه، وكان منها تخلفه عن غزوة بدر، وقلنا أنه لم يُشارك بأمر النبي لتمريض زوجته "رقية"، وحينما تُوفيت زوجه الرسول ابنته "أم كلثوم" وأطلق عليه ذي النورين، وتحدثنا فيما أثير عنه ببيعة الرضوان وحادث جمع القرآن.
ومع أن عثمان رضي الله عنه، خرج على محاصريه، وذكرهم بما كان منه في نصرة الإسلام، وبما كان يقول النبي «ص» عنه، وعن تجهيزه جيش العسرة بأكمله، وشرائه بئر "رومة".. لكن لم يشفع كل هذا له عند محاصريه، ولم يرتجعوا بما ذكرهم من حُرمة دمه.
ومع إن الكتب التي تناولت مقتل «عُثمان» أشارت بالبنان إلى شخوص، غير أن الأرجح أنه كان مخططًا دبرته جماعة سرية استغلت الخلافات لتؤجج الصراع، ومنهم عبد الله بن سبأ اليهودي، والذي أشارت بعض المراجع التاريخية أنه من أرسل تلك الرسالة إلى وفد مصر أثناء عودتهم بعد صلحهم مع «عثمان» وكتب فيها على لسان علي بن أبي طالب، أن عُثمان يُخطط لقتلهم.
اختلفت الروايات على مدة حصار دار «عثمان»، فمنهم من قال كانت عشرين يومًا، ومنهم من قال شهرًا ومنهم من قال أربعين يومًا، بعد إحكام الحصار ومنع الخليفة حتى من الخروج للصلاة، خيره المحاصرون له ما بين خلع نفسه أو يقتلوه، وقيل في هذا الشأن أنه استشار بعضًا ممن حوله فيما قيل له وكان ممن استشارهم ابن عمر.
قال له عثمان رضي الله عنه: انظر إلى ما يقول هؤلاء.. يقولون: اخلعها ولا تقتل نفسك، فقال ابن عمر: إذا خلعتها أمخلد أنت في الدنيا؟ فقال عثمان: لا.. قال فإن لم تخلعها هل يزيدون على أن يقتلوك؟.. فقال عثمان: لا.. فقال ابن عمر: هل يملكون لك جنة أو نار؟.. قال عثمان: لا.. فقال ابن عمر: فلا أرى أن تخلع قميصًا قمصكه الله، فتكون سنة كلما كره قوم خليفتهم أو إمامهم قتلوه.
فأرسل عثمان يستشير الصحابة فقال عبد الله ابن سلام له: «لا تقاتلهم فذلك أبلغ لك في الحجة عند الله»، وحاول علي ابن أبي طالب «كرم الله وجهه» الدخول إلى عثمان، فتعلق به بعض أهله ومنعوه فخلع عمامة سوداء على رأسه وألقاها إلى رسول «عثمان».
وكان رأي عبد الله ابن الزبير، القتال،: «قاتلهم فو الله لقد أحل الله لك قتالهم»، فقال عثمان: لا والله لا أقاتلهم أبدًا، أما زيد بن ثابت فقال له: هؤلاء الأنصار بالباب إن شئت كنا أنصار الله مرتين، فأصر على رفض القتال.
هذا بعض مما ذكر دفاعًا عن الصحابة في القول أنهم تخاذلوا عن الدفاع عن عثمان، ومما قيل أنه لم يُرد إراقة الدماء، لأن بٌشرى الرسول له على غار حراء كانت بالشهادة، ورأى في الحصار تحقيق تلك البشارة فاستسلم لقدره.
ومما ذُكر أن عثمان نام في ليلة قتله فإذ به يرى الرسول "ص" وأبو بكر وعمرو.. فقال النبي "ص" يا عثمان: افطر عندنا.. فأصبح صائمًا وقتل من يومه.
استمر الحصار إلى صبيحة يوم الجمعة الموافق للثاني عشر من ذي الحجة من السنة الخامسة والثلاثين بعد الهجرة، حيث طلب عثمان من الصحابة الانصراف، وتركه وأهله في الدار، ثم فتح الباب لمحاصريه فدخل عليه أحدهم بسيفه، وكان عثمان يقرأ القرآن فقال لهذا الرجل بيني وبينك كتاب الله، فخرج الرجل ثم دخل عليه آخر من بني «سدوس» يطلق عليه «الموت الأسود» فهوى على عثمان بالسيف فاتقاه بيده فقطعها.. فقال عثمان له: والله إنها لأول يد خطت «المُفصل»، أي كتبت المصحف من إملاء رسول الله، وقيل أن أول رجل ضربه يقال له رومان اليماني.
قُتل عثمان.. وإلى الآن لم يُقدم القاتل للمُحاكمة.. أقتله إرث العداوة بين قومه بني أمية وبني هاشم..؟ تلك العداوة التي أطفأت جذوتها رحمة الرسول «ص»، ولم ينفث فيها أحدًا علانية في عهد أبي بكر تقديرًا لمكانته، ولم يجرؤ أحدا في عهد عمرو بالإقدام عليها خشيًة أن تُقطع رأسه، ووجدوا فرصتهم لإشعال نار الفتنة في عهد عثمان..!.
تغلبت حمية الجاهلية في بعض النفوس على الإيمان.. نسي البعض تعاليم الإسلام والسلام وتملكتهم العصبية ووسوس إليهم الشيطان.. ومع التسليم أنه هناك طرف ثالث سكب "البنزين" على تلك النار سواء كان عبد الله ابن سبأ اليهودي أو غيره.. إلا أنه من المؤكد أن هذه الفتنة التي حدثت في عهد عثمان، لم تقف عند حد ما ذكرناه، لكنها طالت كل من اقترب منها حتى المؤرخين والمثقفين، وكثر هم من تناولوا مقتل عثمان، لكن على كثرة ما طالعنا وقرأنا كان مداد الكثير من الأقلام للدفاع أو الهجوم فالدكتور طه حسين نسف رواية عبد الله بن سبأ في كتابه «الفتنة الكبرى»، وهاجم طرحه المحقق الإسلامي محمود شاكر، ولم يُضف جديد «علي محمد الصلابي» في كتابه «فتنة مقتل عثمان»، حتى حينما لجأت إلى عباس العقاد وقرأت «ذو النورين.. عثمان بن عفان» وعبر صفحات كتابه لم أجد أكثر مما قرأت لدى غيره .. وظللت أبحث عن رأيه خالصًا بين السطور ولم أتوصل إليه إلى في آخر فقرة خطها: «هذه السيرة من سير الخلفاء لا نُسميها بالعبقرية كما سمينا أبو بكر وعمر، لأننا لا نؤمن بالعبقرية لعثمان رضي الله عنه، ونؤمن في الحق أنه ذور النورين، نور اليقين ونور الأريحية والخلق الأمين».
وفي النهاية لا أحد يُشكك في إيمان "عثمان".. ولا أحد يجرؤ على التشكيك في إيمان غيره.. لكن هل كان من الصحيح اعتبار درجة الإيمان هي المعيار الأساسي لاختيار الخليفة؟ .. هل كان تواتر التكليف هو الأضمن لاستتباب الأمن وكانت الخطورة في ترسيخ مبدأ الشورى بين أناس ما زالت في صدورهم بعض عادات من الجاهلية؟.. كل هذه تساؤلات لكن المؤكد أن ما نحن فيه امتداد لتلك الفتنة وهذا ما سنتناوله في الحلقات القادمة بمشيئة الله تعالى..