ياسر أيوب يكتب: في حب مراكش وبيوتها الحمراء وحكاياتها

قبل 1966 .. كان مصمم الأزياء العالمى إيف سان لوران لا يحترم أو يختار إلا اللونين الأسود والأبيض لما يصممه من ثياب .. ويرى الأسود هو أجمل الألوان وأهمها وأغلاها ولا يمكن مقارنته بأى لون آخر .. وحين ذهب إلى مراكش 1966 .. اضطر إيف سان لوران لأن يراجع نفسه ويعيد حساباته .. ولم يبق مقتنعا باللون الأسود بعدما علمته مراكش جمال وسحر اللون الأحمر .. وكان من الطبيعى أن يقع المصمم العالمى فى حب اللون الأحمر وفى حب مراكش أيضا .. فاشترى فيها بيتا وكان دائم الذهاب إليها .. ولم يكن إيف سان لوران وحده الذى أحب مراكش .. إنما أحبها كثيرون جدا فى العالم بعدما وقعوا أسرى لسحرها وإغوائها .. اختارها رئيس الوزراء البريطانى الشهير ونستون تشرشل ليأتى إليها ويرسم لوحاته بعيدا عن السياسة والحرب .. وأحب الرئيس الأمريكى بيل كلينتون أن يقضى أوقاته مع مروضى أفاعى مراكش ورقص الكوبرا على إيقاع موسيقاهم .. واعتادت اوبرا وينفرى أن ترقص فى مراكش على إيقاع موسيقى الدقة المراكشية .. واحتفلت فيها مادونا بأعياد ميلادها .. وأحبتها ميريل ستريب .. واعتبرها إينفانتينو رئيس الفيفا إحدى عواصم كرة القدم فى العالم .. وباتت المدينة المفضلة لنجوم اللعبة مثل مبابى وهالاند وديمبلى .. وبنى فيها كريستاينو رونالدو فندقا فخما .. واختارها زين الدين زيدان ليقيم فيها حفل زفاف ابنه إنزو .. وكل هؤلاء كانوا مجرد أسماء فى قبيلة عشاق لمدينة مغربية جميلة تعشق الحياة .. ومثلهم كثيرون جدا من مختلف بلدان العالم ومختلف مجالات الحياة استسلموا تماما لهذه المدينة ووقعوا فى غرامها ولم يقفوا على الحياد بينها وأى مدينة أخرى
وحين ذهبت إلى مراكش عرفت لماذا يقع كثيرون فى حبها دون أن يجد معظمهم وقتا كافيا لشرح أسبابهم وكيف أصبحوا أسرى أو ضحايا لسحر مراكش .. وبدأت حكايتى معها حين رفضت قرارا لإدارة فريق راليات روثمانز ميتسوبيشى بعد انتهاء رالى أطلس بأن أقيم مع مسئولى الفريق الكبار فى فندق المأمونية الفاخر لمجرد أننى صحفى أرافق الفريق ولست من أعضاء الفريق .. لكننى فضلت أن أبقى مع زملائى فى الفريق .. السائقين والملاحين والمهندسين والإداريين والطباخين والعمال .. وأقيم معهم فى فندق أطلس الذى لا يمكن مقارنته بالمأمونية .. وحملت حقيبتى وذهبت فى سيارة أجرة لفندق أطلس بعد أن أبلغت إدارة الفريق من كانوا فى فندق أطلس لتوفير غرفة لى بعدما رفضت الإقامة فى المأمونية .. وفوجئت بالفريق فى انتظارى وبمجرد أن دخلت الفندق حتى صفق لى الجميع .. ولا أنكر أننى حين عدت مساء نفس اليوم مع باقى الفريق لفندق المأمونية لحضور الحفل الختامى الضخم وتناول العشاء .. أحسست أننى قد أكون تسرعت قليلا فى رفض الإقامة فى هذا الفندق الفاخر .. لكن التعويض الحقيقى والجميل كان سلوك موظفات وموظفى فندق أطلس الذين عرفوا بالطبع ما جرى ولماذا وقف فريق الغرباء والأجانب يصفقون لى .. فقرروا مساعدتى فى رؤية مراكش وزواياها .. وكان فندق أطلس فى شارع فرنسا لا يبعد إلا دقائق قليلة عن المدينة القديمة وساحة الفنا ومنارة الكتبية .. أو قلب مراكش .. المدينة الحمراء .. التى اختار أهلها منذ البداية طلاء بيوتهم وأسوارهم باللون الأحمر لقدرته على امتصاص ضوء الشمس وتخفيف درجة الحرارة القاسية وسط الصحراء .. ولم يعد الأمر فيما بعد اختياريا إنما لابد من الالتزام به والاختيار من تسع درجات من اللون الأحمر .. فأصبحت ولا تزال مراكش هى المدينة الحمراء .. بيوت وأسوار حمراء وسط أشجار نخيل خضراء لتصبح كأنها العلم المغربى الأحمر اللون ووسطه نجمة خضراء .. ولم تكن مصادفة أن تصبح مراكش اختصارا للمغرب حتى إن اسم المملكة المغربية فى أوقات كثيرة كان مملكة مراكش
وإذا كانت مراكش هى اختصار المغرب .. فإن ساحة جامع الفنا هى اختصار لكل مراكش .. تاريخها وحكاياتها وأغانيها وموسيقاها ورقصاتها .. هى قلب مراكش الذى لا يتوقف عن النبض فى النهار والليل .. سهل جدا أن تلتقى فيها بوجوه بكل ألوان العالم وتسمع فيها كل لغات الدنيا وتتنقل فيها بعقلك وقلبك بين كل أزمنة التاريخ .. ترى فيها بائعى الكتب والتوابل والثياب والتحف والعطور وأعشاب العلاج والحواة والسحرة وقارئى الطالع والشيوخ والمصورين والراقصين والمهرجين والآفاقين .. وكان جميلا أن أذهب لهذه الساحة ثلاث مرات بصحبة صديقات وأصدقاء مغاربة مختلفى الطباع والثقافة والدراسة فكأننى كنت أراها فى كل مرة بشكل مختلف .. وما رأيته فيها ليس بالضرورة هو ما يراه أى أحد غيرى .. ففيها كل شىء ممكن .. الاحتمالات والتناقضات والمفاجآت .. حتى اسم الساحة اختلفوا بشأنه .. فهناك من قال أنها كانت فناء قصر المرابطين فبات الفناء أشهر من القصر .. وهناك من قال أنها فناء مسجد لم تتم المحافظة عليه فأصبح الجامع الفانى وباتت ساحته هى ساحة الفنا .. وهناك من قال أنها كانت ساحة تنفيذ الأحكام والموت بالسيف فحملت اسم الفناء .. وأيا كان التفسير الصحيح للإسم .. فقد أصبحت ساحة الفنا هى الأشهر فى المغرب وإحدى اجمل ساحات العالم .. ساحة للحياة وليس للموت .. ساحة للحب والفرحة وليس للكراهية أو الدموع
ومن الواضح أن مراكش لم يكن مجرد اسم لمدينة بقدر ما كان نبوءة لما ستكون عليه وتعيشه هذه المدينة .. فحين بناها يوسف بن تاشفين فى 1070 .. كان المكان يقال له مراكش .. أى مر بسرعة بلغة المصامدة .. فالمكان كان موحشا ومخيفا ويصعب عبوره فى سلام وأمان .. ومن يضطر للسير فيه يجب أن يكون يمشى أو يجرى بسرعة .. وحين اكتمل العمران ولم تعد مراكش مكانا موحشا أو مخيفا أو مهجورا .. باتت المدينة نفسها هى التى تجرى بسرعة .. فبعد تأسيسها أصبحت عاصمة للمرابطين .. ثم عاصمة الخلافة الموحدية .. واحتلها المرينيون ونقلوا العاصمة إلى فاس .. ثم استولى عليها السعديون ثم الشرفاء العلويون .. واحتلها الفرنسيون 1912 لتصبح بعدها جزءا من المملكة المغربية 1956 .. وما بين احتلال واحتلال وحرب وحرب وحكم وحكم .. كانت المدينة تعيش التوتر والاضطراب والخوف والفوضى دون أن يسمح لها أحد بالتقاط أنفاسها .. فانتقمت مراكش بعد الاستقلال المغربى من هذا التاريخ الحزين ليس بالحرب إنما بالحب .. فامتلكت القدرة على الإغواء وألا تنتظر أن يحبها أى أحد بل تجبر كل أحد على الوقوع فى غرامها .. وكنت أحد أعضاء القبيلة الاستثنائية جدا لعشاق مراكش بعيدا عن أهلها .. أو هؤلاء الذين رأوها لأول مرة ليس من نافذة طائرة فى السماء أو سيارة قادمة من أى من مدن الشمال .. إنما رأوها هابطين من جبل الأطلس .. ومثلهم مشيت فى الطرق الضيقة المتعرجة وينتابك إحساس أنها تدور حول الجبل لا تريد أن تفارقه .. ولا أملك انا وغيرى إلا أن نظل ندور معها حتى نفقد الأمل فى الوصول .. وفجاة تظهر مراكش ببيوتها الحمراء فى مشهد فيرفع الجميع راياتهم البيضاء إعلانا لعشق مراكش قبل أى خطوة وقبل أى كلمة .. فرؤية مراكش والوصول إليها من فوق جبل الاطلس يختلف تماما عن رؤيتها بأى وسيلة وشكل آخر .. ورغم أننى لم أكن فى مراكش حين كان زلزالها المدمر فى سبتمبر 2023 .. لكنه لم يكن صعبا بالنسبة لى تخيل صدمة مراكش فى أن يأتيها الزلزال من هذا الجبل الذى طالما احتضنته واحتمت به .. وكيف تحولت ساحة الفنا وقتها ليس بالباحثين عن المتعة والورد والحياة إنما بالهاربين من الخوف والدم والموت .. وتحول هذا الزالزال رغم قسوته وأحزانه وضحاياه إلى قصة حب جديدة لمراكش حين تضامن معها كثيرون جدا فى العالم إلى جانب المغاربة الذين يحبونها ويعتزون بها كجزء غال من مملكتهم الجميلة
ومثل أى مدينة أخرى فى العالم .. تنقسم مراكش لمدينة قديمة وأخرى جديدة .. وفى المدينة يسكن التاريخ ومعه مسجد الكتبية وقصر البديع وباب القصيبة وحديقة ماجوريل ونافورة اشرب وشوف وحديقة مولاى عبد السلام وقصر الباهية وحديقة أكدال وباب القصيبة .. والطبيعى أن أقول أن المدينة القديمة أجمل وأهم لكننى أحببت مراكش الجديدة أكثر .. ليس كراهية أو عدم اهتمام واحترام لكل مبانى تاريخ مراكش وقلاعها وقصورها ومساجدها وحدائقها التى رأيت وزرت معظمها .. فأنا أحترمها جدا لكنها مجرد وجهات نظر .. فأنا لا أحب رؤية أى مدينة كأنها سجينة داخل قلعة أو قصر أو متحف .. إنما أحب أن أراها فى حياة وعيون وعادات وطبائع أهلها .. فالتاريخ يمكن أن تنقله الكتب والصور لكن الحقيقة تبقى هى الناس .. زحام الشوارع وصخبها وضجيجها والسير فيها وحيدا أو مع بعض أهلها .. الحوارت والحواديت حول فناجين القهوة وأطباق طعام مغربية رائعة .. فهذه هى مراكش الحقيقية .. حتى الخليط المراكشى بين العربى والأمازيغى والأوروبى مهما تحدثت عنه أوراق وبحوث التاريخ .. يبقى أجمل حين يعيشه الإنسان فى شوارع وبيوت وفنادق دون قصد وتعمد أو تخطيط وترتيب .. وفى الشوارع الجديدة إلى جانب ساحة الفنا .. رأيت المدينة التى لم تهزمها ثورات وحروب وكوارث وزلازل .. وجاء ملوك ورحل ملوك وظلت مراكش أقوى من الجميع وتستحق أن يحبها الجميع