محمد دياب يكتب: ساندوتش الفول

في الصباح الباكر، لا يزال دخان عربات الفول يتصاعد كأنه بخور شعبيّ، يعلنه المصريون طقساً يومياً لا يغيب، مهما اختلفت الفصول وتبدّلت الأحوال. رائحة الزيت، قرمشة الطعمية، صوت البائع وهو يلف السندوتشات في ورق تغلّفه العجلة والحنان معاً... كل ذلك مشهد يومي يحمل في تفاصيله ملامح مصرية خالصة، محفورة في ذاكرة المدينة والريف.
ومع تغيُّر السنين، تغيّر كل شيء. صغُر حجم الساندوتش، خفّت بهارات الفول، وغابت سخاوة الزيت، لكن ظلّت عربته واقفة، لا تكلّ ولا تشتكي. بقيت هناك كجنديّ صباحي، يخوض معركة الحياة بجنيهات قليلة وروح من الصبر لا تنفد
ليست القصة عن طعام، بقدر ما هي عن الصمود.عن عامل يبدأ يومه بوجبة بسيطة لكنها تحفظ اتزانه، وعن طالب يذهب إلى مدرسته بساندوتش صغير وأمل كبير، وعن أمّ تقف أمام العربية تنتظر "قرصين طعمية" تُسكت بهما جوع صغارها، قبل أن تبدأ رحلتها اليومية مع الغلاء
صحيح أن جودة بعض المكونات تراجعت، وصحيح أن الأسعار باتت تثقل كاهل البسطاء، لكن الصحيح أيضاً أن هذه العربة ما زالت تمثّل للناس مأوى صباحيّاً، يجمع بين لقمة سريعة وابتسامة مؤقتة، وطمأنينة لا يقدّمها إلا المألوف
عربية الفول تحوّلت من مصدر للغذاء إلى مقياس نبض الشارع، تنقل هموم الناس بلا صوت، وتروي تفاصيلهم بلا كلام هي مرآة صادقة، تعكس مستوى الرضا حيناً، ومستوى المعاناة أحياناً، لكنها لا تكذب أبداً
وحين نلاحظ تغيّرها، فإننا في الحقيقة نرصد تغيّراً أعمق، في تفاصيل المعيشة، في طبقات الوجدان، وفي شكل الحلم نفسه.
نحن لا نبحث عن لوم، ولا نرفع أصابع الاتهام، لكننا نكتب كي لا ننسى. نكتب لأن ساندوتش الفول الذي يبدو بسيطاً، يُخفي خلفه قصة وطنٍ يأكل بصمت، ويصبر بأدب، ويحلم رغم كل شيء.