شحاتة زكريا يكتب: الهيمنة الخفية.. كيف تُحسم المعارك قبل البدء؟

لم تعد المعارك في عصرنا تُحسم بالقوة العسكرية وحدها بل أصبحت ساحات القتال الحقيقية هي العقول حيث يتم التلاعب بالإدراك وصناعة المفاهيم ، وإعادة تشكيل الوعي الجمعي وفقا لأجندات خفية. لقد انتقلت السيطرة من احتلال الأرض إلى احتلال الفكر ومن فرض القوة بالسلاح إلى توجيه الشعوب بوسائل أكثر تأثيرا وأقل وضوحا.
في الماضي كانت الحروب تُخاض بالجيوش، لكن اليوم يكفي امتلاك أدوات التأثير الإعلامي والتكنولوجي لتحقيق أهداف لم تكن لتتحقق حتى بأعنف المعارك. التحكم في تدفق المعلومات بات سلاحا بيد القوى الكبرى ، حيث يتم تطويع الأحداث، وصناعة الأزمات، وتوجيه الرأي العام نحو مسارات محددة ، مما يجعل الدول والشعوب تتحرك وفق إرادة خفية دون أن تدرك ذلك.
الاقتصاد أصبح سلاحا آخر في هذه الحروب غير التقليدية، فبضغطة زر ، يمكن أن تنهار أسواق ، وتتغير قيمة عملات وتتوقف دول عن العمل بسبب قرارات تُتخذ في أماكن بعيدة. العقوبات الاقتصادية لم تعد مجرد أداة ضغط بل تحولت إلى شكل من أشكال الحرب الحديثة التي تعيد تشكيل موازين القوى العالمية.
التكنولوجيا لعبت دورا محوريا في تكريس هذه الهيمنة الخفية. الذكاء الاصطناعي، البيانات الضخمة، والخوارزميات المتطورة أصبحت أدوات للتحكم في سلوك المجتمعات، حيث تُستخدم لفهم التوجهات، والتلاعب بالقرارات، وإعادة رسم الواقع وفق مصالح الجهات المسيطرة. شركات التكنولوجيا الكبرى لم تعد مجرد منصات تواصل أو محركات بحث، بل تحولت إلى لاعبين أساسيين في تشكيل مستقبل الدول، وتحديد من يصعد ومن يسقط.
لم تعد السيطرة تقتصر على وسائل الإعلام التقليدية بل امتدت إلى الفضاء الرقمي ، حيث يتم توجيه النقاشات وخلق الأزمات، وصناعة الأبطال والأعداء بلمح البصر. حتى الحروب النفسية أصبحت أكثر تطورًا، حيث يتم استهداف الأفراد بشكل مباشر عبر المحتوى الذي يستهلكونه ، مما يجعلهم أكثر عرضة للتأثير دون وعي.
الدول التي لا تمتلك أدوات حماية نفسها من هذه الهيمنة تصبح عرضة للانهيار دون أن يُطلق عليها رصاص. الوعي هو السلاح الأول في هذه المواجهة ، فبدون إدراك لطبيعة هذه الحرب الجديدة، تصبح الشعوب مجرد بيادق في لعبة أكبر منها. بناء إعلام قوي، وتعزيز الأمن السيبراني، ودعم الاستقلال الاقتصادي ، كلها عوامل أساسية لمواجهة هذا الخطر المتنامي.
في عالم تتحكم فيه المعلومات والتكنولوجيا ، لم يعد البقاء للأقوى عسكريا فقط بل للأكثر وعيا وقدرة على التكيف مع هذه التغيرات المتسارعة. الحروب لم تعد تبدأ على الأرض، بل في العقول ومن يدرك هذه الحقيقة مبكرا يكون الأقدر على حماية نفسه وإعادة رسم قواعد اللعبة لصالحه.