ياسر أيوب يكتب: فنجان القهوة المسروق فى أسطنبول

إليف شافاك هى الكاتبة التركية الأشهر التى قرأ مصريون كثيرون روايتها بعنوان قواعد العشق الأربعون واعتبروها فارسة الحب فى زماننا الحالى .. واختارت شافاك موضوعا لروايتها جلال الدين الرومى شاعر الحب الصوفى والعاشق الصعلوك شمس الدين التبريزى .. والمؤكد أن إليف شافاك نفسها ليست من أنصار هذا الحب الصوفى الرقيق والمجنون .. فهى عاقلة بما يكفى .. وبعيدة عن الصوفية بمسافة هائلة تسمح لها بالبقاء فى لندن دون اضطرار لأن تعيش مع زوجها الصحفى التركى وفضلت الإقامة فى لندن .. وقالت أنها تحب زوجها لكنها تحب الكتابة أكثر .. والنجاح أكثر من الإثنين .. كما لا ترى شافاك أى فارق بين حب رجل وإمرأة أو الحب بين رجل ورجل والحب بين إمراة وإمرأة .. فهى ترى أن الحب هو الحب .. فالمهم أن يحب الإنسان ويبقى يحب بعيدا عن تلك القواعد القديمة واختصار الحب فى علاقة أو حكاية بين رجل وإمرأة .. ورغم أفكارها وتصوراتها وحساباتها .. نجحت شافاك فى تسويق نفسها لكثيرين كأستاذة تضع للعشق قواعده وتبيع الرومانسية للجميع .. وأشهد أنها نجحت فى ذلك وساعدها على ذلك الذين لا يقرأون أو يفكرون قليلا ويتمهلون قبل إصدار أى أحكام .. وحملت شافاك دون وجه حق لقب سيدة العشق وأميرته تماما مثلما حملت القهوة دون وجه حق أيضا لقب القهوة التركية
وحين سافرت إلى اسطنبول للمرة الأولى .. وقبل أن أفكر فى رؤية قصر توبكابى وأيا صوفيا والجامع الأزرق وأعبر البوسفور وأقف فوق تل تشامليجا أعلى تلال المدينة السبعة .. خرجت بسرعة من الفندق إلى الشارع وجلست فى مقهى قريب وانتظرت بشغف أول فنجان قهوة تركى فى تركيا .. وكانت تجربة سيئة للغاية .. فأى مقهى فى القاهرة أو صنعاء ودمشق وكازابلانكا وبيروت وتونس يقدم فنجان قهوة أجمل كثيرا وجدا من فنجان القهوة فى اسطنبول .. وتخيلت أننى ربما أسأت اختيار المقهى أو أن مذاق القهوة يتحكم فيه اعتيادك عليها والمكان وحالتك ومشاعرك وقت تناولها .. وحاولت بعد ذلك كثيرا ولم أجد فى اسطنبول كلها قهوة تركية بجمال ومذاق القهوة فى أى مدينة عربية .. وقد أكون مخطئا أو منحازا وربما هناك من سيرى القهوة فى اسطنبول أجمل من اى قهوة فى أى مكان فى العالم .. لكن المؤكد أن هذه القهوة التركية تبقى إحدى أكبر حكايات الخداع والغش فى التاريخ
فهذه القهوة التركية لا علاقة لها بتركيا .. فلم تزرع تركيا أشجار البن ولم تكن من ابتكرت هذا الشراب وقدمته للعالم ليحمل اسمها .. وهناك الكثير من الكتب التى قدمت التاريخ الحقيقى للقهوة التركية ومنها كتب إنجليزية وفرنسية وتركية ايضا .. واختصارا لهذه الكتب فقد بدأت الحكاية فى اليمن الذى كان أهله هم الأصحاب الحقيقيون لهذه القهوة وهم الذين يزرعون أشجارها .. ومنذ قرابة خمسمائة عام .. حمل بعض التجار حبوب البن من اليمن إلى اسطنبول عاصمة الخلافة العثمانية .. ونالت القهوة إعجاب السلاطين العثمانيين وضيوفهم ثم عموم الناس فى اسطنبول وتركيا .. ونشطت الرحلات التجارية التى تحمل محصول البن من اليمن إلى اسطنبول عن طريق الموانىء المصرية مثل دمياط ورشيد والإسكندرية .. وبعد قليل .. وبالتحديد عام 1703 تلقت مصر باعتبارها ولاية عثمانية أمرا سلطانيا بعدم بيع البن الذى يأتيها من اليمن إلا لاسطنبول فقط .. فلم تكن تركيا تريد رواج هذه القهوة إلا من خلالها هى .. ودارت وقائع كثيرة اختفى بعدها اسم اليمن .. ثم اختفى اسم مصر التى كانت قد بدأت تهتم بالقهوة وتبدع فى صنعها وكذلك بلاد الشام .. ونجح الأتراك فى اخفاء الجميع لتبقى تركيا وحدها وتحمل هذه القهوة اسم تركيا وتصبح معروفة فى العالم كله باسم القهوة التركية .. وحتى حين بدأت أوروبا تزرع البن اليمنى فى مناطق أخرى وتكسر احتكار مصر لتجارة البن .. ظلت القهوة تحمل اسم تركيا .. وطول الوقت وحتى الآن .. لم تتكاسل تركيا فى تأكيد دائم على ان القهوة تركية .. والمؤكد أنها نجحت فى ذلك بدليل أن الجميع يقولون قهوة تركية حتى نحن فى مصر نقول ذلك وفى اليمن أيضا يقولون قهوة تركية رغم أنهم هم أصحابها الحقيقيون
وبالحديث عن رومانسية إليف شافاك والقهوة التى ليست تركية .. يمكن بدء الحديث عن اسطنبول .. المدينة التى تعرف كيف تبيع نفسها للعالم وتجيد رسم صورة جميلة لها فى عيون الجميع .. ولا أقصد أنها تكذب أو تخدع الناس طول الوقت .. فهى مدينة جميلة بالفعل وتملك تاريخا حقيقيا وطويلا سواء كعاصمة كانت للإمبراطورية الرومانية أو البيزنطية أو اللاتينية أو العثمانية .. ولم تستسلم حين قرر مصطفى كمال أتاتورك فى 1923 نقل العاصمة إلى مدينة أنقرة .. وظلت تحاول وتحارب حتى نجحت بعد أقل من ثلاثين عاما فى أن تصبح أقوى وأغنى وأشهر من أنقرة وأهم وأجمل ما فى تركيا كلها .. ومن الواضح أن اسطنبول تعلمت من تاريخها الطويل بكل ما فيه من دراما وتحولات وزلازل كيف تتعايش مع الجميع وكيف تخاطب كل الناس بما يريده كل منهم .. وكيف تبيع لهم ما يريدون أو لا يريدون شراءه .. فالذى يأتى يريد التاريخ بقلاعه ومتاحفه سيجد أكثر مما تخيله .. ومن يأتى يريد الاستمتاع والبهجة لن تبخل عليه اسطنبول بشىء .. ومن يريد الطعام ستغريه مطاعم اسطنبول ليأكل ما يحبه أو لا يحبه .. ومن يريد الثياب سيجد منها الرخيص والغالى .. وأذكر حين سألنى موظف الفندق فى اليوم الثانى لأول زيارة لى لاسطنبول لماذا بقيت حتى الآن لا أسأله عن أهم الأسواق .. وكان سؤال مفاجئا وغريبا أيضا .. فقال لى أننى مصرى واعتاد حين يأتى المصريون أن يسألوا عن أسواق الثياب .. وانزعج جدا حين أكدت له أننى لا أريد شراء أى ثياب
وبعد زيارة أخرى لاسطنبول .. نسيت مفاتيح البيت والسيارة فوق مقعدى فى الطائرة .. وذهبت لمقر شركة الطيران فطلبوا منى الانتظار حتى نزول كل الركاب وصعود فريق التنظيف .. وجلست يومها بجوار مأمور الجمرك الذى بالمصادفة كان أحد قراء ما أكتبه فى الأهرام .. وتحدث الرجل كثيرا عن اسطنبول والطائرات القادمة من اسطنبول .. وكم الثياب التى تمتلىء بها الحقائب سواء التى اشتراها أصحابها لأنفسهم وعائلاتهم أو التى اشترتها سيدات استعدادا لبيعها فى القاهرة .. وكيف تتحول كل طائرة قادمة من اسطنبول إلى حالة طوارىء فى جمرك مطار القاهرة .. وكانت حكايات الرجل الكثيرة وذكرياته عن رحلات اسطنبول تحديدا تعنى أن اسطنبول نجحت فى إقناع المصريين بالسفر إليها لشراء الثياب سواء كانت جيدة أو رديئة وتستحق أو لا تستحق .. وليس المصريين وحدهم .. فاسطنبول تبيع ثيابها لكثيرين جدا من مختلف بلدان العالم .. وفيها بيوت كثيرة تنازلت عن أدوارها الأولى لتصبح أسواقا تبيع الثياب وكل شىء .. وبعيدا عن الأسواق الكبرى والمولات والمحلات الفخمة .. سهل أن تجد فى شوارع اسطنبول المحلات التى تبيع ثياب النساء والرجال والأطفال والحقائب والتحف والسجاجيد .. وليست هناك أى مشكلة .. فكل العملات مقبولة وكل اللغات هناك من يتحدثها
وقضيت زيارة أخرى لاسطنبول فى ميدان تقسيم .. قلب تركيا كلها وليست اسطنبول وحدها .. تأسس عام 1733 فى وسط المدينة وكان قديما يحتفظ فى منتصفه بمبنى لتقسيم المياة على ضواحى اسطنبول .. فأصبح اسمه ميدان تقسيم وبقى الإسم حتى بعد إزالة المبنى القديم الذى حل محله نصب تذكارى وتماثيله البرونزية من الرخام .. وهو ميدان الثورة والغضب لسنين طويلة جدا فى تركيا منذ الستينات وحتى الآن .. هو أيضا ميدان كرة القدم وانتصاراتها وعنفها وجرائمها أيضا .. وأخيرا هو الميدان الموجود فى كل روايات الأديب التركى العالمى أورهان باموك الفائز بجائزة نوبل فى الأدب منذ سبع سنوات .. حيث تدور فيه أحداث الروايات الجميلة .. وفيه تناقضاتها وتناقضات تركيا كلها من غنى وفقر وأناقة وقبح وإيمان وعداء وخوف من الدين وانتصار وانكسار وفنادق فخمة وبيوت متداعية .. وفيه أهل أسطنبول وترامها القديم الشهير وكل أحلام المدينة وأوجاعها واحزانها وأفراحها وثوراتها أيضا
وقد نجحت اسطنبول فى بيع كل شىء لكل الناس .. ومثلما نجحت فى إقناع العالم بأن القهوة تركية .. وهناك كتاب جميل بعنوان قهوة تركية تقاسم تأليفه صبرى قوز وكمال الدين كوزوكو .. وفيه أكد الإثنان أن تركيا التى لم تزرع أشجار البن ولا اخترعت الوصفة هى التى علمت العالم كيف يحب القهوة لدرجة الاقتناع بأنها قهوة تركية .. وأكد الإثنان أيضا أنه من الصعب جدا فهم الشعب التركى وأفكاره وتناقضاته وحيرته وقواعده وفلسفته دون فهم علاقة الأتراك بالقهوة وفناجينها .. وهذا بالضرورة ليس رأى توم بروشنان .. داعية السلام الأمريكى الذى هاجر من تكساس إلى اسطنبول عام 1967 .. واستوطن المدينة الجميلة وعاش فيها حتى قدم مؤخرا حكايته معها فى كتاب بعنوان تركيا شمس ساطعة وشاى قوى .. ويقول توم فى هذا الكتاب أنه صحيح أن الأتراك علموا العالم شرب القهوة وكيف يصنعها لدرجة أن يزرع العالم البن فى أمريكا اللاتينية وآسيا ثم يشربها باعتبارها قهوة تركى .. إلا أن الأتراك أنفسهم يفضلون شرب الشاى ويشربونه طول الوقت
وتعلمت من كتاب بروشنان وكتب وقراءات أخرى أن أقضى وقتى فى اسطنبول كما أريد وأقرر أنا وليس اسطنبول وألا أشترى إلا الذى أحتاج إليه وليس الذى اعتادت اسطنبول أن تبيعه لكل الناس .. فاستمتعت بالفرجة على تناقضات هذه المدينة الكبيرة .. مدينة للشرق والغرب .. تاريخ ومستقبل .. جديد وقديم .. نظام وفوضى .. حجاب ونقاب وثياب قصيرة جدا .. شذوذ ودعارة و1500 مئذنة تحت سماء اسطنبول .. فكل شىء متاح فى شوارع اسطنبول .. وأجمل ما فيها هو السير على شاطىء البوسفور والخليج الذهبى الذى يقسم المدينة إلى نصفين .. اسطنبول الأوروبية واسطنبول الآسيوية .. وبينهما الكبارى والمراكب التى تنقل الناس طول الوقت بين القارتين .. وينتظرها أو يراها الناس ويستمتعون بتناول السمك الطازج المشوى أمامهم على الشاطىء مع الخبز الساخن .. وكان مذاقه جميلا ومختلفا ربما لأنه ليس مما تحرص اسطنبول على ان تبيعه لضيوفها فلا يستمتع به إلا أهلها .. وأشياء أخرى كثيرة تبقى كأسرار من الصعب أن تبوح بها اسطنبول إلا فى أحيان قليلة لمن يحسن الدق على أبوابها ويجيد التعامل معها