الطريق
الأحد 8 سبتمبر 2024 10:30 مـ 5 ربيع أول 1446 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
وزيرة التنمية المحلية تبحث مع نقيب الأطباء البيطريين عدد من الملفات المشتركة إغلاق مستشفي دار الإسراء بالوراق لمخالفتها اشتراطات التراخيص.. صور رئيس الوزراء يلتقي وزير المالية لمتابعة ملفات عمل الوزارة الفرافرة تستقبل 120 مشاركًا للتدريب على أدلة الصحراء رئيس جامعة دمنهور يشهد فعاليات ختام النسخة الثانية من دورة إعداد المدربين T.O.T باعتماد المجلس الأعلى للجامعات محافظة الجيزة ترفع 600 حالة إشغال للمحال والمنشآت التجارية بشوارع العمرانية بدء أعمال لجنة تقييم المشروعات المشاركة في المبادرة الوطنية للمشروعات الخضراء الذكية بالجيزة بطاقة استيعابية ٢٥٠٠ طالب.. المدن الجامعية بطنطا جاهزة لاستقبال الطلاب في بداية العام الدراسي الجديد طلاب جامعة قناة السويس يؤدون امتحانات الفصل الصيفي بمناسبة عيد الفلاح.. محافظ القليوبية يتفقد عددا من الصوب الزراعية محافظ القليوبية يوجّه بتنفيذ حملات لإزالة الطوابق العلوية المخالفة بمنطقة الفلل ببنها افتتاح معرض مستلزمات المدارس للعاملين بشركة بتروتريد

عبدالحليم قنديل يكتب: حرب تحطيم السودان

عبدالحليم قنديل
عبدالحليم قنديل

فور أن بدأت الحرب اللعينة الجارية فى السودان لأكثر من 15 شهرا حتى اليوم ، كتبت فى نفس هذا المكان مقالا غاية فى التشاؤم ، حذرت فيه من سيناريوهات المصائر الأسوأ ، وقلت وقتها بوضوح صادم ، أن تحطيم الجيش السودانى لا قدرالله ، قد لا يعنى أقل من استصدار شهادة وفاة للسودان الذى نعرفه ، وكنت أظن وقتها أن الاحتمال المفزع بعيد لكنه وارد ، رغم جولات تفاوض متسكعة فى العواصم القريبة والبعيدة ، لم تثمر حتى فى اتفاق على فتح طرق ومسارات نقل مساعدات لملايين المنكوبين .
وبعد كل ما مضى من فظاعات الحرب الملعونة ، تبدو خرائط السودان متفسخة ، وتبدو خطوط التقسيم مرسومة غائرة فى الأرض ، فلم ينجح الجيش السودانى حتى الآن فى سحق قوات "الدعم السريع" المتمردة ، واضطر قائد الجيش "عبد الفتاح البرهان" ، إلى مغادرة مقرالقيادة العامة للقوات المسلحة والعاصمة "الخرطوم" قبل شهور ، واتخذ لنفسه ولحكومته ملاذا فى ميناء "بورتسودان" ، ورغم استعادة الجيش لمناطق فى الخرطوم ، خصوصا فى "أم درمان" وما حولها ، إضافة لمناطق قيادة عسكرية ، أهمها قاعدة ومطار "وادى سيدنا" ، فيما ظلت جماعات المتمردين من "الدعم السريع" فى أغلب نواحى العاصمة المثلثة ، تقتل وتنهب وتعيث فسادا فى الأعيان المدنية العامة والخاصة ، وتحركت بسلاسة فى خارج "الخرطوم" ، وسيطرت على أغلب ولايات "دارفور" الخمس ، وتحارب لإكمال السيطرة على "الفاشر" أكبر مدن "دارفور" ، ومن الغرب إلى الوسط ، كانت ضربة استيلاء قوات "الدعم السريع" على ولاية "الجزيرة" قلب السودان الزراعى ، ثم من بعدها أخيرا إلى منطقة "جبل موية" ، ثم جنوبها إلى ولاية "سنار" ومدينة "سنجة" ، مع مخاطر متزايدة فى ولايات "كردفان" الثلاث وولايات "النيل الأزرق" و"النيل الأبيض" و"القضارف" ، ومع كل نوبة تراجع ، لا تصدر عن الجيش روايات مفيدة ولا مقنعة ، تشرح أسباب التساقط السريع للحاميات العسكرية وهروب قواتها ، فيما تبدو قوات "الدعم السريع" منتشية منتفخة ، وتقول أنها صارت تسيطر على نحو سبعين بالمئة من إجمالى أراضى السودان ، فيما لم تتبق تحت سيطرة الجيش الفعلية ، سوى ولايات فى شمال السودان وبعض شرقه وجنوبه ، وبقطع النظر عن مدى دقة ادعاءات الطرفين المتحاربين ، فقد دخل السودان الحبيب إلى أسوأ كوابيسه ، وصارنحو نصف سكان السودان شركاء فى أحوال التشرد والمجاعات والنزوح واللجوء إلى خارج البلاد ، وكل منطقة تدخلها قوات "الدعم السريع" ، يهرب أغلب سكانها خوفا وهلعا ، وأطراف الحرب تتكاثر إلى ما لا نهاية ، فما كان يسمى "حركات الكفاح المسلح" دخلت إلى حلبات الدم الجديدة ، وانحازت بعض فصائلها إلى الجيش ، كما يجرى فى "الفاشر" وما حولها ، بينما تدعم حركات أخرى حرب "الدعم السريع" ضد الجيش عمليا ، كما يجرى من حركة "عبد العزيز الحلو" فى "كردفان" و"جبال النوبة" ، وفى أجواء الفوضى والانفلات والبؤس العام ، عاودت أثيوبيا ـ من خلال ميليشيات "فانو" الأمهرية ـ هجماتها على منطقة "الفشقة" الغنية الخصبة زراعيا ، التى كان الجيش حرر أغلبها سابقا ، وكأن السودان ـ لاقدر الله ـ تحول إلى تركة ، يتناهشها الفرقاء من السودانيين وعواصم الجوار ، فيما تخفق كل محاولات التفاوض ، ووضع حد للحرب ، ونسمع كل أسبوع تقريبا عن مؤتمرات فى عواصم جوار لقوى مدنية متشاكسة ، لا يصل أيا منها إلى حل ، ولا حتى إلى بيان مشترك فى العموميات ، كما جرى مثلا فى مؤتمر "القاهرة" قبل أسابيع ، وتنصل قوى مشاركة وازنة من بيانه الختامى قبل أن يجف حبره .
وصحيح ، أنه لا طرف بعينه انتصر بالكامل فى الحرب الملعونة حتى الآن ، لكن الهزيمة وهوانها كانت من نصيب السودان كله ، الذى لم يشهد فى عمره الطويل بعد استقلاله عام 1956 ، سوى سنوات معدودة من استقرار صورى ، وتناوبت عليه صور الحكم العسكرى فالمدنى ، ومن دون نجاح لأى منها فى وضع السودان على مسار استقرار وتنمية متصلة ، فالبلد شاسع المساحة حتى بعد انفصال ثلثه الجنوبى رسميا عام 2011 ، وموارده الطبيعية هائلة ومتنوعة ، وتركيبه السكانى مختلط بين قبائل وإثنيات عرقية عربية وأفريقية وغيرها ، وحدوده سائبة مع أغلب دول جواره المأزومة الهشة هى الأخرى ، وهو ما يزيد ويضاعف مصادر الخطر من حوله وفى داخله ، ويجعله مطمعا للمتصارعين فى البيئة الإقليمية والدولية ، خصوصا فى هذه المرحلة من عمر العالم والمنطقة فى قلبه ، مرحلة الانفجارات والحروب الطاحنة انتقالا من عالم إلى آخر ، بينما لا يملك السودان حصانة داخلية تحميه وتحفظ تماسكه ، فقد ولد السودان ما بعد الاستقلال بعلة صارت عاهة مستديمة ، هى الضعف المريع لجهاز الدولة العسكرى والمدنى ، وهو ما جعل تكوينه رخوا دائما بلا عمود فقرى ناظم ، فلا أحزاب ولا تيارات جامعة للتنوع السودانى الكثيف ، ولا تنمية مؤثرة تذيب كيانات وعشائر وجهات ما قبل الدولة ، وتخلق مجتمعا متجانسا ولو فى الحد الأدنى ، ولا حتى قوة قهر وصهر للجميع فى بوتقة دولة ، فالجيش السودانى الذى حكم أغلب أوقات ما بعد الاستقلال ، كان دائما رمزيا ومخترقا وضعيفا بالجملة ، ولم يقم أبدا على أساس التجنيد الوطنى العام ، وكان مدار سيطرته وحضوره مقصورا غالبا على العاصمة وما حولها ، وهو ما شجع دائما على حضور ونمو حركات تمرد فى الأطراف البعيدة ، كان أولها حركات تمرد فى جنوب السودان بطابعه الأفريقى ، وقد ظلت تحارب جيش الخرطوم منذ ما قبل الاستقلال ، وبلغت ذروة عملها فى عهد الجنرال "عمر البشير" وحكمه "الإخوانى" ، واستفادت حركة التمرد من تعبئة "جهادية" جهولة ، صورت الصدام كما لو كان حربا دينية ، فانشق السودان فى نهاية الحروب الدموية إلى شمال وجنوب ، ثم جاء الدور على حروب غرب السودان فى "دارفور" ، ومساحتها وحدها أكبر من مساحة فرنسا ، وولدت فى سياقها جرثومة "الدعم السريع" ، وعبر مراحل "جنجويدية" إجرامية ، آلت إلى صعود "محمد حمدان دقلو" المعروف باسم الجنرال "حميدتى" ، وكان "البشير" يصفه بأنه "حمايتى" لا "حميدتى" ، وتضخم النتوء "الحميدتى" بعد سقوط حكم "البشير" ، وصرنا إزاء جيشين لا جيش واحد ، وإزاء جنرالين فى قمة سلطة المرحلة الانتقالية المتطاولة المتعثرة ، وإزاء صراع تفاقم بين "البرهان" رئيس مجلس السيادة ونائبه "حميدتى" ، وإزاء مشهد عجيب كاريكاتورى فى "الخرطوم" ، تتقافز فيه أسماء لقوى مدنية مرتبطة عضويا بالتمويل والتوجيه الأجنبى ، وإزاء مخاوف من انتقال سريع للاحتكام إلى الشعب فى انتخابات عامة ، وهو ما أغرى "حميدتى" باللجوء إلى لعبته القاتلة ، فقد كان تسليح وعديد قوات الدعم السريع قد تكاثر طفريا ، وكانت أوراق الاتفاقات الإطارية تتطاير ، وهو ما دفع "حميدتى" بتعليمه الأولى الابتدائى ، وبروح قائد العصابة الخاطفة الناهبة لكنوز السودان وذهبه من "دارفور" إلى "كردفان" ، وباتصالاته الخليجية مع دول فائقة الغنى والطمع ، وباستفادته من حدود السودان السائبة ، وببعض امتداداته القبلية غرب حدود السودان ، وكانت تلك كلها موارد مؤثرة فى ضربة "حميدتى" الأخيرة ، فلم يجد حرجا مع كل هذه الفوضى فى أن يعلن نفسه زعيما وراعيا للديمقراطية ، مقابل الديكتاتورية المنسوبة لشخص الجنرال "البرهان" ، وأعلن الحرب على الجيش بدعوى حماية ما أسماه "خيار الشعب" فى الحرية والسلام والعدالة ، وبدت اللعبة الهزلية جذابة لقوى وشخصيات مدنية متطلعة للسلطة والثراء الفردى ، ثم تحول الهزل سريعا إلى مآسى دماء تسيل بغير حساب ، وإلى شقاء وهلاك متصل للسودان والسودانيين ، مع تكرار النغمة "الجهادية" القديمة نفسها على الطرف المقابل ، وتجنيد جماعات المستنفرين دينيا لصالح الجيش ، ومن دون أن يضيف ذلك شيئا غير الوبال المتقادم نفسه ، فالطرفان يهتفان "الله أكبر" عند كل مذبحة ، وفى صفوفها معا قطاعات مما يسمى "الحركة الإسلامية" فى السودان ، ولا مانع عند "حميدتى" من تقبل عمامة "الشيخ" بعد رتبة "الجنرال" ، فهى أشياء تشترى من الأسواق ، وعنده المال المسروق الكافى ، الذى يصوره إماما وديمقراطيا وجنرالا بارعا ، يسعى ـ كما يتقولون ـ لجعل الحكم فى يد المدنيين الديمقراطيين ، وفى الطريق يهوى رجاله ومرتزقته بالمعاول على رأس السودان ، ويحرقون بالنار ما تبقى من اسمه ورسمه ، ويحطمون ما تبقى من الجيش وانضباطه وهويته السودانية شبه الجامعة ، وفى الوضع السودانى الراهن ، فما من قيمة لكلام هازل أو جاد عن الديمقراطية ونوع الحكم ، فالخطر الآن يجتاح السودان نفسه ، وينذر بخلع ما تبقى من جذور وركائز الدولة السودانية ، ويهدد بقاء الجيش كحجر زاوية وحيد فى الصرح السودانى الافتراضى ، ويفتح أبواب الجحيم لحروب فناء أهلى تبدأ فلا تنتهى .