الطريق
الأربعاء 16 أبريل 2025 12:11 مـ 18 شوال 1446 هـ
جريدة الطريق
رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس التحريرمحمد رجب
فيديو| مراسل ”القاهرة الإخبارية”: الوضع الإنسانى فى المدن الآمنة بالسودان ما زال كارثيًا توقيع بروتوكول تعاون بين التضامن الاجتماعي وبنك التعمير والإسكان فوز رئيس الاتحاد المصرى لكرة السلة بمنصب نائب رئيس الاتحاد العربى للعبة رئيس الوزراء يبدأ جولة تفقدية بعدد من المشروعات الخدمية بمحافظة الإسماعيلية وزير العمل في كلمته أمام ”النواب”: صدور قانون العمل إنجاز كبير وزير الداخلية يهنئ البابا تواضروس الثاني بمناسبة عيد القيامة وزيرة التخطيط تستعرض مستهدفات قطاعي الزراعة والري للعام المالي 25/2026 أمام النواب ارتفاع عدد ضحايا غارات الاحتلال على مناطق متفرقة بقطاع غزة إلى 25 شهيدا منذ فجر اليوم فيديو| نتنياهو يزور شمال غزة لتقييم الوضع العسكري وسط احتجاجات من الجنود مخطط خطير لزعزعة أمن الأردن تقوده جماعة الإخوان شخصيات بارزة من جماعة الإخوان تقف خلف المخطط التخريبي في الأردن أيمن محسب: حزب الوفد مستعد للانتخابات ويملك قاعدة شعبية واسعة

ياسر أيوب يكتب: الحب والحياة والمكرونة فى كاتانيا

صالة وبلكونة وموبيليا وبانيو وفيراندا وتاندة وفالصو وأنتيكا وروبابيكيا بدلا من روبافيكيا .. فاترينة وفاتورة وكمبيالة وماركة وروشتة وبوسطة وفيزيتا .. تورتة وصلصة وسلاطة وجيلاتى وباروكة وبروفة وجونلة وجوانتى .. آلا أونا آلا دوى آلا تريه وبريمو وترسو واستابينا وألسطة وباللو وأفوكاتو وميكانيكى وتياترو وبلياتشو .. كلها ومفردات أخرى كثيرة نرددها فى مصر دون أن يعرف كثيرون أنها إيطالية أصلا .. وكان ذلك بعض ما تعلمته وعرفته حين قضيت وقتا طويلا فى مدينة كاتانيا بجزيرة صقلية .. مدينة لم أكن أعرف عنها أى شىء قبل أن أذهب إليها فى 1983 كطالب طب سيقضى الصيف للتدريب فى قسم أمراض النساء والتوليد بمستشفى جامعة كاتانيا .. وقضيت هذا الوقت الطويل نهارا فى المستشفى مع طبيبات وأطباء وزملاء كثيرين .. وفى المساء مع طالبات وطلبة حيث أقمت معهم فى السكن الخاص بطلبة جامعة كاتانيا .. وهكذا لم أكن فى كاتانيا سائحا جاء لعدة أيام جمع خلالها ذكريات وصور وحكايات .. ولم أر المدينة كما تحب أن يراها الغرباء .. فقد عشت فى المدينة وسط أهلها كواحد منهم .. ولم يسمح لى ذلك بمعرفة مدينة كاتانيا فقط أو جزيرة صقلية .. إنما عرفت وأحببت إيطاليا وأهلها الذين يعشقون الحياة ولا تنجح أى أزمة تواجههم وأى ألم يستوطن قلوبهم وأجسادهم فى أن تسرق منهم الفرحة والحلم والحب والتفاؤل والرقص والابتسام والغناء
ولا أزال أذكر كيف بدأت الرحلة إلى كاتنانيا .. من القاهرة إلى روما ومن مطار فيومبشينو إلى محطة قطار ترمينى .. ثم رحلة طويلة بالقطار إلى الجنوب .. وبعدها عبور البحر ونحن داخل القطار بالمعدية إلى ميسينا فى جزيرة صقلية .. وأخيرا محطة قطار كاتانيا .. وبعد سفر أكثر من 12 ساعة داخل القطار مع إيطاليين بسطاء لم تتوقف أبدا أحاديثهم وغناؤهم وصرخاتهم ونصائحهم .. أصبحت أعرف أى أوتوبيس سأستقله من أمام محطة القطار حتى أصل إلى المدينة الجامعية .. ولم أجد المسئول الذى من المفترض أن يقوم بترتيب كل شىء سواء للإقامة أو التدريب .. لكننى وجدت شابا عرفنى بنفسه .. اسمه بيترو ويدرس فى كلية الصيدلة .. وعرف حكايتى فتولى هو البحث عن المسئول وقام بيترو باستكمال الإجراءات مع إدارة المدينة فتسلمت غرفتى .. وعدت للقاعة الرئيسة حيث كان بيترو فى انتظارى ومعه طالبتان .. فرانكا فى كلية الطب وباتريتسيا فى كلية الصيدلة .. وذهبت معهم لمطعم المدينة لتناول طعام الغذاء حيث الوقوف فى الطابور بصينية فوقها أطباق فارغة والمرور على من يقدمون الطعام .. ولم ولن انسى المرأة العجوز المبتسمة دائما التى كانت تقدم المكرونة .. أجمل مكرونة أكلتها فى حياتى .. لهذا اعتدت الذهاب إليها كل يوم من أجل طبق المكرونة الذى كان نادرا ما يتكرر .. ففى كل يوم كان هناك طبق مختلف .. فهناك أكثر من 1000 شكل ووصفة للمكرونة فى إيطاليا .. والمكرونة فى صقلية لا تشبه المكرونة فى روما أو نابولى أو ميلانو .. ورغم أراء تشير إلى أن الإيطاليين ليسوا هم من اخترع أو ابتكر المكرونة لكنها أصبحت رمزا لهوية إيطاليا كالعلم والنشيد .. ورغم أن المكرونة بدأت فى إيطاليا كطعام للفقراء إلا أنها أصبحت ملكا للجميع .. وحين حاول موسولينى حظر طبخ المكرونة لعدم توافر القمح .. ثار الإيطاليون وأجبروا الديكتاتور الفاشى على التراجع لأنه ليس باستطاعتهم الاستغناء عن المكرونة
وكان المطبخ الإيطالى قد اشتهر بأنه المطبخ الفقير .. لأن الإيطاليين نجحوا دائما بمكونات قليلة جدا ورخيصة أيضا أن يبتكروا أطباقا اشتهرت وأحبها العالم كله .. وما قام به الإيطاليون فى مطابخهم .. قاموا به فى كل مجالات حياتهم وأحالوا القليل الذى فى يديهم لكثير جدا من الفرحة والحب .. رأيتهم فى صقلية حالمين ومجانين .. يتعلمون الحب قبل المشى .. يجيدون الغناء قبل الكلام .. يحترفون الابتسامة مهما كانت مواجعهم ومرارة أيامهم .. ولا أنسى يوم ذهبت للسوق أول مرة .. سوق يبدأ بشارع ضيق على جانبيه كانت العربات الخشبية فوقها أنواع مختلفة من الأسماك والقواقع البحرية والكابوريا .. وفوق الأرصفة يباع كل شىء من البقالة إلى اللحوم والخبز ومستلزمات الخياطة والأدوات المنزلية .. وينتهى الشارع بميدان كبير امتلأ بعشرات الخيام حيث تباع الثياب .. معظمها كانت ثياب قديمة يشتريها الناس وقد أقنعوا أنفسهم بأنها جديدة رغم ثقتهم بأنها ليست جديدة .. والبائعون يقسمون بأنها جديدة وهم يعرفون أنهم يكذبون وكل من يسمعونهم يعرفون أنهم يكذبون .. وفى أحد الأركان البعيدة يقف شباب وفتيات يبيعون بعضا من ثيابهم القديمة أو أشياء من بيوتهم للحصول على مال يكفى لسهرة السبت أو نزهة الأحد .. ورأيت فى السوق أيضا من يبيعون بضاعة مسروقة بنصف أو ربع ثمنها .. ولا يعترفون بالطبع بأنها بضاعة مسروقة لكنهم يؤكدون أن القليل الذى يطلبونه كثمن لها مجرد تحية وترحيب بمن سيشترى .. والذى يستوقفك سواء فى السوق أو فى كل مكان هو أن الجميع سعداء أو قرروا أن يصبحوا ويبقوا سعداء .. فهذه طبيعة إيطالية لدى فقراء وأغنياء وفى قرى إيطاليا أو مدنها الكبيرة
ولم يبق بيترو وفرانكا وباتريتسيا هم كل أصدقائى فى كاتانيا .. ففى كل يوم جديد كانت الدائرة تكبر وتضم الكثير من الوجوه والأسماء .. واعتدت كل صباح أن أكون مع أساتذتى فى مستشفى الجامعة أتعلم فى كل يوم شيئا جديدا يخص أمراض النساء والولادة .. ثم أعود آخر النهار لأصدقائى فى المدينة الجامعية .. معهم ذهبت إلى مدينة الملاهى لكن بعد أن قرروا أننا لن نشتر تذاكر ولهذا تنقلنا من اوتوبيس لآخر ثم أكملنا الطريق سيرا على الأقدام .. وكانوا من وقت لآخر يقفون وسط الطريق للرقص والغناء ويصفق لهم الآخرون فوق الرصيف .. وذهبت معهم إلى شاطىء البحر أو شاطىء الألوان على الطريقة الصقلية حيث المياه الزرقاء والرمال الصفراء والصخور السوداء .. ورأيت معهم أجمل وأهم معالم كاتانيا ثانى أكبر مدن جزيرة صقلية .. المدينة التى بناها الإغريق واحتلها الرومان والعرب وأحبها الإيطاليون ودمرها الزلزال مرة وأحرقها بركان إتنا مرة أخرى .. وأجمل مافيها كان ميدان ديل دومو وكاتدرائية سانت أجاتا وشارع إتنا ومسرح ماسيمو .. ورغم جمال كاتانيا إلا أن الكثيرين من صديقاتى وأصدقائى كان حلمهم الاكبر هو الهجرة إلى الشمال بعد إكمال دراستهم .. فهم يعرفون أنه لا نجاح إلا فى الشمال ولا مستقبل إلا فى روما وميلانو وتورينو .. وكان بيترو معجبا بالشاعر الصقلى سلفاتورى كوازيمودو الفائز بجائزة نوبل للأدب 1959 .. وفى إحدى قصائده قال كوازيمودو .. تعب الجنوب من حمل الموتى .. تعب من الوحدة ومن السلاسل .. تعب من الذين نشروا الموت فى آباره وشربوا من الدماء التى ينزفها من قلبه الجريح .. لن يستطيع أحد أن يعيدنى بعد الآن إلى الجنوب .. ولم يكن بيترو يحب الشعر فقط أو الأدب .. كان أيضا عاشقا لكرة القدم وحاولت إقناعه دون جدوى بأننى كنت أشجع إيطاليا فى مونديال العام الماضى فى إسبانيا وكيف كانت سعادتى حين فازت إيطاليا على البرازيل والأرجنتين وألمانيا ليعود منتخبها إلى روما بكأس العالم
وفى المقابل صدقتنى فرانكا .. فقد كانت متعصبة لإيطاليا وترى أنه من الطبيعى أن يشجع أى انسان منتخب إيطاليا وأن يحب إيطاليا .. البلد التى اخترعت الصحافة والبنوك والراديو والمكرونة والبيتزا وقماش الجينز والقهوة إسبريسو .. وعلمت العالم كله الرقص والغناء وكيف يفرح ويعيش الحياة .. ولم أقل لها أننا فى مصر مدينين لجوهر الصقلى الذى بنى القاهرة .. والذى يقال أنه كان يجيد صناعة الحلوى قبل أن يباع للخليفة الفاطمى المنصور بالله محتفظا بلقب الحلوانى .. ومع الفاطميين تعلم فنون الحرب وأصبح من أشهر قادة الفاطميين .. وأرسله المعز لدين الله على رأس جيش للاستيلاء على مصر فانتصر على العباسيين وأسس مدينة القاهرة وبنى جامع الأزهر ولهذا اشتهر تعبير أن الذى بنى مصر كان فى الأصل حلوانى .. ولم تكن مصر أيضا غائبة عن مدينة كاتانيا .. ففى الميدان الرئيسى لكاتانيا نافورة وتمثال رومانى قديم لفيل منحوت من حجر البازلت الأسود .. وكانت من نتيجة الزلزال الضخم فى 1693 الذى أصبح لا يزال أحد أسوأ وأقسة زلازل التاريخ .. تهدمت المدينة وتحطم كثير من أجزاء هذا الفيل .. وبعد إعادة أعمارها .. قرر المهندس المعمارى جيوفانى باتيستا فاكارينى إعادة ترميم تمثال الفيل وبناء النافورة وحولها تمثالان يرمزان للنهرين اللذين يجرين فى المدينة .. سيميتو وأمينانو .. ومن أجل ذلك استعان فاكارينى بالرخام المصرى لتشارك مصر فى تجميل مدينة كاتانيا
وجاءت النهاية وبات الرحيل ضروريا عن مدينة أحببتها وبدأت أشعر بالانتماء إليها .. ووقفت أصافح وأودع الجميع .. لم أستطع أن أخفى دموعى وأنا أودع كل هؤلاء الأصدقاء حيث لم أتخيل أن يكون لى فى أى يوم كل هؤلاء الأصدقاء .. أكثر من خمسين صديقة وصديقا وقفوا حولى أمام أبواب المدينة الجامعية.. كل واحد منهم يقبلنى ويكتب لى عنوانه ويصر على أن تستمر صداقتنا.. وأصر بيترو وفرانكا وباتريتسيا على أن يأتوا معى إلى محطة القطار وظلوا معى حتى بدأ القطار يسير راحلا إلى روما .. ولا أزال حتى الآن أتذكر كل تفاصيل أيامى فى كاتانيا .. الطبيبة الجميلة فى المستشفى الجامعى وما علمتنى إياه .. المدينة الجامعية بكل وجوهها وحكاياتها وطعامها .. المدينة الجميلة بشوارعها وميادينها التى تعلمت فيها الحب والحياة وقيمة أن تحب وضرورة أن تعيش.

من كتاب بلاد على ورق

موضوعات متعلقة