الطريق
الخميس 9 مايو 2024 11:45 صـ 1 ذو القعدة 1445 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

مصطفى بيومى .يكتب شخصيات مسيحية في الأدب المصري

فصل من كتاب "شخصيات مسيحية في الأدب المصري"
*مسيحة
الحرام
يوسف إدريس
باشكاتب التفتيش، وشخصية محورية متفردة. يختلف جذريا عن المحيطين به، فهو من ناحية :"أرسخ الموظفين جميعا أقداما في التفتيش، وهو من ناحية أخرى المسيحي الوحيد في الإدارة، لكن الاختلاف الديني لا يعني شيئا بالنظر إلى انهماك الجميع في العمل الدءوب الشاق، وغياب التعصب.
السمات الغالبة على شخصية مسيحة أفندي مزيج مركب من الدهاء والمكر والخبث والإسراف في الحذر والحيطة، وسماته هذه لا ترادف مسيحيته، وليس أدل على ذلك من أن شقيقه الأصغر دميان، الذي يعيش معه وتحت وصايته، ساذج أبله أقرب إلى المجاذيب، أما الزوجة عفيفة والابنة لندة فلا شيء يميزهما عن غيرهما من النساء والفتيات المسلمات.
يبدأ مسيحة حياته العملية نفرا بالأجرة، ويقترن صعود مكانته الاجتماعية بالتتلمذ على يد المعلم قيصر، الباشكاتب القديم ذي الدراية الواسعة بأسرار الحسابات ودهاليزها وخباياها. يتعلم منه القراءة والكتابة والحساب، ويخلص في التبعية له كأنه الخادم المطيع :"فهو الأطوع له من بنانه، يخدم في منزله ويذهب إلى البندر البعيد ويشتري حاجياته ويحافظ على زجاجة الزبيب أكثر من محافظته على عينه، وإذا ما همهم المعلم قيصر لينطق تفتحت آذانه كلها لكلامه، وإذا تكلم لا يصغي له، وإنما الأدق أنه يمد أصابع نهمة من أذنيه، ليلتقط كل كلمة تخرج من فمه ويدسها في رأسه بسرعة مخافة أن تضيع أو تتبدد؛ إذ من حساباته وكلماته سينتقل مسيحة من طبقة إلى طبقة، ومن فتى مآله الزراعة والعمل بالفأس حتما إلى أفندي يجلس على مكتب ويعمل بذلك الشيء الصغير الساحر: القلم".
عبر العصور التاريخية المختلفة، كان المصريون المسيحيون دائما هم الأكثر استحواذا وسيطرة على وظائف الصرافة والحسابات، فلا غرابة أن يكون مسيحة خليفة لقيصر بعد وفاته، وأن يستمد منه منظومة القيم والمبادىء التي يحافظ عليها ويتشبث بها، في عمله الوظيفي وحياته الشخصية على حد سواء.
فارق اجتماعي شاسع بين العمل بالفأس والعمل بالقلم، وفي سبيل الخلاص من مشقة العمل الزراعي وأهواله، لا يتورع مسيحة عن التفاني في الخضوع لأستاذه ومثله الأعلى، فهو يعي أن مستقبله رهين بالطاعة غير المحدودة، والقدرة على التقاط مفاتيح الفهم للعالم الغامض الذي تضن معرفته على غير أهله.
من حكايات قيصر التي لا تُنسى، ما يرويه لتلميذه عن معنى أن تكون كاتبا بارعا للحسابات. الاندفاع المتهور عدو لدود للكاتب المحترف الذي يتحرى الدقة ويراود النجاح، والسؤال عن حاصل ضرب عملية حسابية بسيطة مثل "2×2" لا يتطلب إجابة سريعة مغرورة، فالحكمة الموروثة عن كهنة الحسابات المرموقين لا تسمح بترف الزهو الفارغ لمعرفة الإجابة. المثل الأعلى الجدير بالاحتذاء هو الكاتب القديم العجوز الذي يُسال عن حاصل الضرب فيتهيأ للإجابة كأنها مسألة معقدة.
المعلم قيصر، بسلوكه العملي وحكاياته الحكيمة، هو صاحب الفضل الأكبر في تشكيل شخصية مسيحة، وبدروس أستاذه يحقق النجاح والاستقرار والتوازن الذي ينهض على حسابات دقيقة صارمة، لا مجال فيها للانفعال العاطفي والإسراف في المشاعر :"الحرص والحذر وعدم ترك الشيء للصدف، ذلك ما علمه إياه المعلم قيصر قُدست روحه، وذلك ما جعله يخلفه في وظيفته حين مات، وما جعله يعمل في التفتيش أكثر من أربعين عاما ماضيا على تلك القاعدة بلا سهو أو خطأ، يقبل عليه مآمير ومفتشون ويذهبون، وتُباع الأرض وتُشترى وهو وحده الثابت الخالد، قابعا وراء مكتبه الضخم وعلى يمينه أكوام الدفاتر، أقل دفتر منها يزن عشرة كيلو جرامات، وعلى يساره أكوام. وهو العالم الخبير بكل أحوال التفتيش وتاريخه، يعرف كل فلاح بالاسم والأب والأم، ويتذكر السلفة التي أخذها فلان حتى قبل أن يفتح الدفتر، يعامل الفلاحين رغم عشرته الطويلة لهم بأبلغ الحذر ويختلط بهم ويضحك معهم ويستشيرونه في أحوالهم وأخص خصائصهم، ولكنه دائما مسيحة أفندي الباشكاتب".
ليست المسألة عنده أن يكون محبوبا ذا شعبية، فالأهمية الحقيقية في أنه العالم الخبير المحيط بتاريخ التفتيش ومن فيه، تعينه ذاكرة خارقة لا تغيب عنها ذرة واحدة من التفاصيل الدقيقة. لا يتقرب من الآخرين إلى درجة الاندماج والذوبان ورفع الكلفة، ولا يبتعد عنهم إلى حد الجفاف والجفاء والعداء. لا شك أنه راض بموقعه ومكانته، رضا الآخرين بأهميته وإقرارهم بضرورته وخطورته.
مسيحة رب أسرة تتكون من الزوجة عفيفة وثلاثة أولاد وبنت واحدة، لندة؛. لا تفاصيل مشبعة عن الذكور من أبنائه، فهم غائبون تماما عن مسرح الأحداث، والاهتمام كله ينصب على الفتاة التي تحصل على الشهادة الابتدائية وتقبع في البيت انتظارا للعريس :"والعرسان قليلون، إذ من أين يعلم العرسان بهذه الغادة الجالسة تنتظرهم في ذلك المكان النائي الكائن على شمال الدنيا؟".
قد تكون لندة جميلة عند المقارنة ببنات الفلاحين، لكنها لا تحظى بالكثير من الإعجاب والتقدير عند الاحتكاك بالأقارب في شبرا، ففي زحام القاهرة واتساعها تبدو لندة كبيرة الأنف واسعة الفم خشنة الشعر غير ممشوقة القد، ولا يشفع لها بياض بشرتها الذي يمثل علامة السحر التي لا تُقاوم في البيئة الريفية.
تأخر زواج لندة يفجّر شلالات القلق في أعماق مسيحة، وتتضاعف المخاوف والهواجس السلبية بالنظر إلى وجود الشاب صفوت، ابن مأمور الزراعة فكري أفندي، فالخوف كل الخوف أن يقتربا محكومين بنزق الشباب وعواطفه الجياشة. الاختلاف الديني يحول دون الزواج بطبيعة الحال، ولا ثمرة متوقعة من التقارب إلا الفضيحة.
لقد تعلم مسيحة من أستاذه قيصر أن يكون حريصا حذرا مسكونا بالشك، ولا يقنع كاتب الحسابات بتطبيق هذه المبادىء الصارمة في عمله، فالحياة الأسرية أيضا لا تنجو من منظومة القيم التي تحكمه، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بلندة التي يوشك قطار الزواج أن يفوتها.
العثور على جثة رضيع مخنوق، يفتح الباب واسعا للبحث عن الأم المجهولة صاحبة الخطيئة، واللافت للنظر أن شكوك مسيحة تتجه إلى ابنته، فإذ به يمعن النظر إليها وهي نائمة :"يمسحها بعينيه الضيقتين ويتحسس يدها وبطنها مدعيا أنه يسألها عما بها، وبطنها بالذات، لم تكن له ليونة بطون الوالدات ولكنه كان يوجعها".
يعيش مسيحة في جحيم لا يستطيع الفرار منه، وكم يبدو فاقد الثقة بأقرب الناس إليه عندما يفكر في تستر زوجه على ابنته :"قد تكون هي المتسترة على بنتها، بل وما أدراه أنها لا تتستر أيضا على نفسها؟".
الأمر هنا يقترب من حالة المرض النفسي المزعج، وينم عن خلل فادح يسكن كاتب الحسابات الذي يعلي من شأن الحذر والريبة في تطرف مرذول يقف به على حافة الجنون. يقع أسيرا للأرق والأفكار السوداوية التي تنغص صفو حياته، وتطيح بالحد الأدنى من راحة البال :"كان شكه في مرض لندة قد ازداد إلى درجة بدأ يفكر فيها أن يأخذها إلى الطبيب في المركز في اليوم التالي ليكشف عليها، لا ليرى إن كانت مريضة حقيقية، ولكن ليرى أيضا كنه ما حل بها. البنت تعدت سن الزواج، وهي حلوة وموفورة الصحة وتحيا في فراغ كبير، ومن الجائز جدا أن يكون الشيطان قد أغواها".
الإسراف في الجفاف يفسد حياة مسيحة، فلا متسع عنده لحسن الظن والتسلح بمشاعر إنسانية دافئة، تخلو من أشباح السوء. لا يعني هذا النمط من التفكير أنه أحادي النظرة تماما، فلا يخلو الأمر من تفكير مضاد يعود به إلى شيء من الاعتدال :"وبينما هو في خضم ذلك الكابوس الرهيب عنّ له سؤال: أليس من الجائز أن يكون مخطئا؟. ماذا لو ثبت أن اللقيط مثلا ابن واحدة من الغرابوة، ألا يُعد تفكيره على هذا النحو واتهامه لابنته وطعنه شرفها ضربا من الجنون والعته؟".
مثل هذه الأسئلة التي تتضمن قدرا من الشعور بالندم، أقرب إلى الاستثناء في طوفان الشكوك السوداء التي تسيطر على مسيحة، ولا نهاية للقلق والوساوس إلا بعد اكتشاف الأم التي خنقت رضيعها، لكن نهاية سعيدة كهذه لا تنفي أن الأصل عند مسيحة هو سوء الظن وغياب الثقة.
لا تحول براءة لندة دون استمرار الهواجس المسيطرة على مسيحة، فسرعان ما يعود إلى مخاوفه القديمة من وجود علاقة بين ابنته، أسيرة الشباب والفراغ، وصفوت ابن مأمور التفتيش. لم يكن الخطاب الغرامي الذي يرسله الشاب المدلل إلى لندة، ويضبطه مسيحة، إلا تأكيدا لجدية المخاوف التي تنتابه، ومن هنا يبادر بزيارة المأمور فكري أفندي في منزله محتجا على سلوك الابن المستهتر.
العلاقة بين مسيحة وفكري متوترة منذ البدء، ولا يتورع كاتب الحسابات الداهية عن إدمان إرسال الشكاوى ضد المأمور، طاعنا في ذمته المالية ومشككا في إخلاصه ونزاهته. لا تغيب حقيقة موقف مسيحة عن فكري، ولذلك يتخوف من زياراته دائما ولا يتوقع من ورائها إلا الشر :"فزيارات الباشكاتب لمكتبه قليلة ونادرة، ودائما وراء كل زيارة هدف، والهدف على الدوام خبيث".
ينهمك مسيحة في مواجهة المخاوف التي تتعلق بصفوت وما يمثله من تهديد، وتغيب عنه أسرار العلاقة السرية التي تنمو ببطء وثقة بين لندة وأحمد سلطان، الموظف الصغير في التفتيش، وهي العلاقة التي تفضي إلى مفاجأة مدوية من العيار الثقيل. يستقيل أحمد من وظيفته ويغادر إلى مكان مجهول، ثم تختفي لندة بدورها ذات يوم :"وجن مسيحة أفندي وهو يطوف البلاد طولا وعرضا ويبحث عنها، وزالت المفاجأة، وانكشف السر حين عرف أنها ذهبت لتتزوج من أحمد سلطان، وأن الزواج تم في مركز البوليس، وأن استقالته واختفاءها وكل شيء تم باتفاق بينه وبينها. وأضاف ما حدث إلى عمر مسيحة أفندي عشرات الأعوام، فشاب معظم شعره وأصبح لا يهتم بنظافة ثيابه أو وضع المناديل لتحمي ياقته من عرقه، وقاطع لندة وزوجها وآل على نفسه وأولاده وزوجته ألا يعرفوها أو يروها أو تأتي سيرتها على ألسنتهم. ولكن الأيام -آه من الأيام- ما لبثت أن جعلته يغفر وينسى، ويرد على الخطابات الكثيرة التي ظلت لندة ترسلها إليه كل أسبوع بخطاب متزمت مقتضب، ولكنه يبدأ بتلك العبارة:
- ابنتنا العزيزة لندة".
ما تقدم عليه لندة فعل يشبه الصاعقة، فالهروب في ذاته كارثة، والزواج من مسلم صدمة لا يسهل استيعابها والشفاء منها. إنه زلزال مدمر يفسد حياة الباشكاتب الحريص الحذر المتمسك بالعقل المطمئن إلى حساباته، والذي يرى في منهجه الجاف ضمانا للنجاة من التحولات العاصفة والكوارث التي يكابدها الآخرون.
لا يستطيع مسيحة أن يحتفظ بتوازنه وتماسكه، ولا يقوى على الاستمرار في إيقاع حياته المألوف المعتاد. يتخلى مرغما عن التقاليد والأعراف التي تصاحبه في رحلة العمر الطويلة، فلا نظافة أو أناقة، ولا شهية في الإقبال على الحياة التي تتنكر له وتوجه أشد الطعنات.
الحذر لا ينجي من القدر، وكاهن الحسابات يسقط صريعا بفعل خلل فادح في حساباته. قد لا يكون مسئولا وحده عما يقع، لكنه يتحمل بالضرورة الجانب الأكبر من المسئولية، ذلك أنه يغالي في الشح العاطفي، ويبتعد عن ابنته وهمومها الكامنة، قانعا بالدفاع السلبي الذي يحقق الأمان المؤقت الزائف. لم يفكر في الاقتراب منها وتفهم ما يحاصرها من أزمات خانقة، وما يراود خيالها الظامىء إلى الحب من أحلام وتطلعات، وكان لا بد أن يدفع الثمن.
تمرد لندة يقود مسيحة أفندي إلى الذبول والضياع والانكسار والتخبط، وخضوعه –بعد تمنع طويل- لقانون التسامح والرضا الاضطراري لا يعني أن تستعيد حياته إيقاعها المألوف الذي يسود عقودا متصلة، فقد انكسر شيء جوهري يستحيل تعويضه.
لا تأثير للاختلاف الديني على المكانة الاجتماعية لمسيحة، فهو الرجل الثاني في التفتيش بحكم وظيفته، ولا دور للانتماء الديني في تشكيل ملامح شخصيته التي تعبر عن تفاعلات وصراعات وانعكاسات العمل وحده دون العقيدة.
دميان، الأخ الأصغر لمسيحة، معتوه أبله يسخر منه الجميع بقدر ما يشفقون عليه. لا شيء فيه من صفات الدهاء والخبث والمكر والحرص، بل إنه لا يتورع عن القول بأنه مسلم موحد بالله، ويقرأ الفاتحة وآية الكرسي :"المحرج في الأمر أن دميان كان شقيق مسيحة أفندي الباشكاتب، وأن تسخر من شقيق الباشكاتب أمر محرج، أو أحيانا أمر مبهج، وكأن الفلاحين يبهجهم أنهم يستطيعون أن يسخروا من الإدارة في مواجهتها حين يسخرون بدميان".
الشقيقان مختلفان إلى درجة التناقض الكامل، وفي هذا الاختلاف ما يبرهن على أن الانتماء الديني وحده لا يصنع الخصوصية أو يشكل الشخصية. الصراع كله دنيوي خالص، يدور حول معطيات الحياة وما تحفل به من معارك صغيرة لا غنى عنها.
مسيحة ذو حضور متوهج، ومرد ذلك إلى اختلافه الكامل عن المحيطين به، وهو اختلاف لا تظهر فيه العوامل الدينية، ذلك أن البطولة للحياة بكل ما فيها من مفردات متنوعة.