الطريق
جريدة الطريق

منار عبد الله تكتب: أبطال لا يصفق لهم أحد، لكنهم يصنعون الفرق

-

في زوايا الحياة التي لا تصلها أضواء الشهرة، ولا تعرفها عدسات الكاميرات، يعيش رجال ونساء لا تلتقطهم العيون العابرة، لكنهم في الحقيقة يرفعون الأوطان على أكتافهم دون أن ينتظروا إشادة أو تصفيقًا.
هؤلاء هم أبطال النجاح الصامت، بناة العالم الحقيقي، الذين يمضون كل يوم في صناعة الفرق، بهدوء العارفين وعظمة المتواضعين.
من خيوط الفجر الأولى، حين تتثاءب المدينة من سباتها، يكون المزارع قد أنهى نصف عمله. هناك، في التراب المبلل بندى الصباح، يغرس حبات القمح، ويسقيها بعرقه قبل الماء، هؤلاء لا يقيم لهم الإعلام مهرجانات، ولا تزين صورهم أغلفة المجلات، لكن من دونهم، لما كان للموائد أن تمتد، ولا للأوطان أن تتزين بالخضرة والأمل.
وفي الطرقات التي تزدحم بالسائرين نحو أحلامهم، ثمة يد خفية تمسح الغبار عن الأرصفة، وتُبعد الأذى عن عيون المارة.. عامل النظافة، ذاك التي يمر بصمت كنسيم لا يُرى، يحارب القبح كل صباح، ويزرع الجمال حيث يمر الآخرون غافلين.
لا أحد يكتب عنه، ولا يتبارى السياسيون في التغني بإنجازه، لكنه مع ذلك، يحفظ للمدن كرامتها، وللحياة وجهها النقي.
ثم هناك من يعملون خلف الجدران العالية، حيث لا صوت يعلو سوى صوت الواجب: العامل في المصنع، المعلم في قريته النائية، الممرضة التي تظل بجوار سرير مريض لا تعرفه، والجندي الذي يحرس حدود الحلم في قلب الشتاء ولهيب الصيف.
هؤلاء لا يحفلون بتدوين مآثرهم، لأنهم يدركون أن البطولة الحقة لا تطلب اعترافًا، وأن الكبار حقًا هم الذين يتركون الأثر، لا الضجيج.

عظمة من يبنون المجد بلا ضجيج النجاح الصامت هو الذي يصنع الحضارات، إنه شجرة مثمرة لا تهمها إن مرّ بها الناس غافلين، أو لم يرفعوا أبصارهم ليروا غصونها المتدلية بالعطاء.
إنه المعلم الذي يزرع بذور المعرفة في عقول الأطفال دون أن ينتظر تصفيقًا، والطبيب الريفي الذي يداوي الجراح في قرية منسية، والمهندس الذي يبتكر بهدوء، فيعبر العالم جسورًا لم يعرفوا كيف شُيدت.
إن في الصمت قوة لا يدركها إلا العظماء؛ قوة العمل لأجل المعنى، لا لأجل المديح، وإن أكثر ما يحتاجه عالمنا اليوم، ليس مزيدًا من الأضواء الصارخة، بل وفاءً صامتًا، وعطاءً لا يطلب مقابله شيئًا.
فلنلتفت، ولو مرة، إلى هؤلاء، لنرفع لهم قبعات الامتنان، ولنعترف أن التاريخ، في حقيقته، لم يُكتب يومًا بمن صنعوا الضجيج، بل بمن صنعوا الفرق، ومضوا صامتين.