الطريق
جريدة الطريق

محمد الجوهري يكتب: الفجوة الرقمية والمحتوى.. من يملك الوصول يحكم المستقبل

-

بين من يعانق المستقبل ومن يلاحقه بلا جدوى
تخيل أن المستقبل يُوزع الآن مثل تذاكر قطار سريع، بعضهم على متن القطار يحلق عبر المدن الذكية نحو عوالم الذكاء الاصطناعي والميتافيرس، وآخرون يركضون حفاةً خلف العربة الأخيرة، ممسكين بآمال تتآكل مع كل ثانية، في أحد أطراف العالم، طفلة تبحث عن إشارة هاتف وسط غابة كثيفة لتكمل واجبها المدرسي، وفي طرف آخر، شاب يبني عوالم افتراضية ويربح ملايين الدولارات، بين هؤلاء وأولئك تتسع هوة اسمها: الفجوة الرقمية.
معركة صامتة تحدد من سيكتب قصة البشرية القادمة… ومن سيُمحى صوته من السجلات.

تعريف الفجوة الرقمية الحديثة.. أكثر من مجرد اتصال

الوصول إلى الإنترنت ليس كافيًا لتجاوز الفجوة الرقمية، لكن يشمل أبعادًا أعقد، منها القدرة على شراء الأجهزة، مهارات التعامل مع التكنولوجيا، وتوفر بنية تحتية موثوقة.
بحسب تقرير الاتحاد الدولي للاتصالات لعام 2024، يعيش نحو 35% من سكان العالم بلا اتصال موثوق بالإنترنت، رغم دخولنا عصر “الثورة الصناعية الرابعة”، والأخطر، أن فجوة الجودة (سرعة الإنترنت، أمان الشبكات، حرية التصفح) تتسع بوتيرة أسرع من فجوة الوصول الأولي.

في دراسة حديثة نشرتها مؤسسة “أكسفورد إنترنت”، ظهر أن أقل من 12% من المحتوى الرقمي العالمي متاح باللغات الإفريقية مجتمعة، مما يكشف عن فجوة ثقافية خطيرة تتزاوج مع الفجوة الرقمية.

المحتوى.. السلاح الجديد في معركة النفوذ

في العالم الرقمي، من يملك القدرة على نشر روايته يتحكم في الذاكرة الجمعية للبشرية،
صحيح أن وسائل التواصل الاجتماعي أطلقت العنان للأصوات الشعبية، لكنها أيضًا عكست الفوارق، ففي حين يتمكن صانعو المحتوى في نيويورك أو لندن من الوصول إلى مئات الملايين بضغطة زر، يعجز مبدعون في قرى نائية عن إيصال قصصهم خارج حدود قريتهم.

فمثلا، أثناء حرائق أستراليا 2020، أنقذ بث مباشر عبر تيك توك حياة مئات العائلات من مناطق الخطر.
في المقابل، خلال مجاعة مدغشقر 2021، لم تصل قصص الضحايا للعالم لأن المنطقة كانت محرومة من البنية التحتية الرقمية.
هذه حيوات تُنقذ أو تُفقد وفق من يملك حق البث.

الاقتصاد والتعليم.. قطار لا ينتظر أحدًا

لا يرحم الاقتصاد الرقمي المتخلفين عنه، تتوقع “ماكينزي” أن الاقتصاد القائم على الذكاء الاصطناعي سيضيف نحو 13 تريليون دولار للاقتصاد العالمي بحلول 2030، ولكن الغالبية الساحقة من هذه الأرباح ستُحصد في دول محدودة.
من ناحية التعليم، تشير تقارير اليونيسف إلى أن 70% من أطفال المدارس في أفريقيا جنوب الصحراء لم يتمكنوا من مواصلة تعليمهم عن بُعد أثناء جائحة كورونا، مما خلق “جيل الجائحة” المهدد بالتهميش طويل الأمد.

تظهر بيانات عام 2024 أن الشركات الكبرى أصبحت تشترط في إعلانات التوظيف مهارات مثل التعامل مع الذكاء الاصطناعي أو تطوير المحتوى الرقمي بنسبة زادت 55% مقارنة بعام 2020.

نماذج للمقاومة والابتكار.. حيث تُخلق المعجزات
الهند
بعد إطلاق مشروع “ديجيتال إنديا”، ارتفع عدد مستخدمي الإنترنت الريفيين بنسبة 45% خلال خمس سنوات، مما فجر طفرة محتوى محلي غير مسبوقة.

سوريا
نشطت شبكات بثّ عبر “البلوتوث” في المخيمات لإيصال الأخبار والتعليمات الهامة رغم انعدام الاتصال.

أوكرانيا
أثبت نظام “ستارلينك” أثناء الحرب أهمية الأقمار الصناعية في توفير بدائل فورية للاتصال التقليدي، بل وتحقيق تفوق ميداني.

ملامح المستقبل.. هل نحن على مشارف استعمار رقمي؟

مع ظهور الميتافيرس، تحذر تقارير الأمم المتحدة من أن الفجوة الرقمية قد تتسع لتصبح فجوة وجودية، من لا يمتلك سرعة اتصال عالية وأجهزة متطورة سيُحرم من التعليم، العمل، وحتى المشاركة الاجتماعية،
أما الذكاء الاصطناعي، فقد بدأ بالفعل في تعزيز تحيزات العالم الواقعي عبر تهميش الثقافات غير الغربية في خوارزميات الترجمة والتصنيف والرؤية الآلية.

بعض المختبرات الآن تطور أجهزة تعمل بالطاقة الشمسية وتوفر شبكة “إنترانت” محلية دون الحاجة إلى الإنترنت العام.

من يمتلك حق الحكاية، يمتلك المستقبل

إن الفجوة الرقمية معركة على من يُسمع صوته، ومن يظل حبيس الصمت.
كما قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش: “ينبغي ألا يكون الوصول إلى التكنولوجيا امتيازًا، بل حقًا لكل إنسان.”

السؤال الأهم الآن: هل سنسمح بأن يصبح المستقبل حكرًا على نخبة رقمية صغيرة، أم نعيد اختراعه ليشمل الجميع؟