الطريق
جريدة الطريق

ياسر أيوب يكتب: الدم والحب والغضب فى تاريخ وشوارع ميونيخ

-

لا يكذب الألمان حين يقولون أن ميونيخ هى أجمل مدينة فى بلادهم رغم أنها ليست أكبر من برلين وهامبورج لا يكذبون حين يشيرون إلى ميونيخ باعتبارها المدينة الأكثر ملاءمة للحياة وسيجد فيها اى انسان ما يحتاجه ويحبه ويبحث عنه لا يكذبون حين يؤكدون أن ميونيخ هى مدينة الفنون والثقافة والمتاحف والرياضة والطب والعلاج والطعام والكنائس والمعابد والمساجد .. ورغم كل ذلك .. لم يكن باستطاعتى حين ذهبت إلى ميونيخ لأول مرة أن أنسى تاريخ ميونيخ .. فهى المدينة التى أسس فيها هتلر الحزب النازى ومنحت هتلر فى بداية مشواره كل ما كان يحتاج إليه من قوة ليحكم ألمانيا ثم يحارب العالم كله .. وهى المدينة التى أحبها هتلر وجعلها طيلة فترة حكمه ساحة استعراضاته النازية فى شارع برينن شتراسه وحفلاته الكبرى فى ساحة كونيجسبلاتس .. ثم أصبحت المدينة التى اختارتها إسرائيل بالعمد لتقيم فى نفس ساحة كونيجسبلاتس مركز توثيق جرائم النازية ولأن إسرائيل ترى دائما هذه المدينة هى بداية الحرب ضد اليهود فقد أقامت فيها قنصلية هى القنصلية الإسرائيلية الوحيدة فى غرب أوروبا .. وميونيخ أيضا هى التى شهدت فى 5 سبتمبر 1972 أكبر مأساة أوليمبية حين قام ثمانية مسلحين فلسطينيين ينتمون لمنظمة أيلول الأسود باقتحام مقر البعثة الإسرائيلية فى القرية الأوليمبية لدورة ميونيخ .. وبعد تفاصيل كثيرة انتهت الحكاية بموت 11 رياضيا إسرائيليا وخمسة فلسطينيين وجندى شرطة ألمانى .. ومثلما أراد هتلر استضافة أول دورة أوليمبية فى ألمانيا فى برلين 1936 لاستغلالها للدعاية النازية .. قررت منظمة أيلول الأسود استغلال ثانى دورة أوليمبية فى المانيا فى ميونيخ 1972 للضغط على إسرائيل للإفراج عن الرهائن الفلسطينيين .. وقامت بعدها إسرائيل بالانتقام عن طريق عملية حملت اسم غضب الرب وقتلت كل من كانت له علاقة بحادث دورة ميونيخ .. وهى العملية التى حكى تفاصيلها المخرج الكبير ستيفن سبيلبرج فى 2005 فى فيلمه الشهير بعنوان ميونيخ الذى أثار غضب إسرائيل
ولم أذهب إلى ميونيخ للاستمتاع بجمال المدينة ورؤية شوارعها وميادينها وزيارة متاحفها ومطاعمها أو العلاج فى مستشفياتها الشهيرة .. ولم أسافر إليها أيضا للتقليب فى تاريخها المسكون بالدم والخوف والحزن والغضب .. لكننى ذهبت بدعوة من شركة مينى كوبر لتجربة سياراتها الجديدة وقيادتها فى شوارع ميونيخ .. السيارة الصغيرة التى بدأ التفكير فى تصنيعها بعد حرب 1956 فى مصر ومنع ناقلات النفط من عبور قناة السويس .. ونتيجة أزمة الوقود التى بدأت تهدد بريطانيا .. قررت شركة المحركات البريطانية برئاسة ليونارد لورد تصنيع سيارة صغيرة تتسع لأربعة أفراد ويقل كثيرا استهلاكها للوقود عن أى سيارة أخرى وقام بتصميمها السير أليكس إيسيجونيس وحملت اسم مينى كوبر .. وفى 1996 اشترت شركة بى إم دبليو الألمانية العملاقة شركة مينى كوبر التى أصبحت تدار مشروعاتها وبحوثها من مدينة ميونيخ تماما مثل بى إم دبليو .. وهكذا ذهبت لتجربة سيارة أنتجتها بريطانيا بسبب مصر وأصبحت ألمانية وقيادة هذه السيارة فى مدينة ميونيخ الذى يعنى اسمها بيت الرهبان .. مدينة أسسها ويلف هنرى 1158 كمجرد قرية صغيرة أصبحت رسميا بعد 20 سنة مدينة .. وبدأ يسكنها بعد 100 سنة أمراء ونبلاء .. ثم أصبحت فى 1314 مقرا للملك لودفيج الرابع وتم اختيارها فى 1506 عاصمة لولاية بافاريا وأصبحت الآن العاصمة الخفية لألمانيا التى على جبال الألب وتفتح قلبها لنهر إيسار ويسكنها أكثر من مليون ونصف إنسان .. مدينة تملك جامعة لودفيج ماكسميليانز التى نال أساتذتها 15 جائزة نوبل فى العلوم والفيزياء والطب والكيمياء .. وتملك بى إم دبليو كإحدى أكبر وأشهر شركات السيارات فى العالم .. وتملك نادى بايرن ميونيخ بكل نجاحاته الكروية فى ألمانيا وأوروبا والعالم كله .. وتملك الحديقة الإنجليزية كأكبر حديقة فى العالم .. وهى ثانى مدن العالم الأكثر إنتاجا للكتب وطباعتها ونشرها .. ولم يعد مفاجئا لأى أحد ان تصبح ميونيخ هى المدينة الألمانية الأغنى والأكثر نجاحا فى كل ألمانيا
ورغم أن إقامتى كانت فى أحد الفنادق الكبرى الملاصقة لمطار ميونيخ الذى يبعد حوالى 35 كيلومترا عن قلب المدينة .. ورغم أننى من الذين يعشقون أجواء المطارات وصخبها وزحامها وقلوبها المسكونة بفرحة اللقاء وأحزان الوداع .. إلا أن ذلك لم يمنع من استخدام قطار إس بان الذى يبدأ كل 10 دقائق السير من المطار إلى قلب ميونيخ .. وفى ميدان مارين بلاتس بدأت حكايتى مع ميونيخ ومعالمها وأهلها .. ميدان ضخم وشهير تحبه وتعتز به ميونيخ واحتفظت به فى قلبها وكاد أن يصبح رمزا لها حتى إن لاعبى بايرن ميونيخ عقب كل بطولة ياتون لهذا الميدان للاحتفال فيه مع جماهيرهم وأهل مدينتهم .. ميدان يمكن الجلوس فى أحد مقاهيه طويلا دون ملل وتأمل الوجوه وانفعالاتها .. ألمانية وأوروبية وعربية ولاتينية وآسيوية وأفريقية .. ويمكن أيضا السير منه على الأقدام لرؤية كاتدرائية السيدة العذراء صاحبة البرجين الشهيرين وقررت بلدية ميونيخ عدم السماح بأى مبنى يزيد ارتفاعه عن 98 مترا لتبقى الكاتدرائية هى أعلى ما فى المدينة .. ورغم صخب الأصوات وزحام الوجوه حولى .. اكتفيت بقهوتى وأنا أستعيد حكاية إمرأة من ميونيخ اسمها إيفا براون التى دائما أراها بصورة مختلفة قد تفاجىء الكثيرين .. فقد أحبت إيفا هتلر فى 1931 وهى لا تزال فى التاسعة عشرة من العمر وظلت معه حتى 1944 دون أن تظهر مطلقا فى النور أو تحاول بأى شكل استغلال أنها حبيبة الزعيم النازى .. وحين أدرك هتلر اقتراب النهاية ذهبت معه إيفا إلى المخبأ المنيع تحت مقر الرايخ فى برلين .. وأخيرا تزوجها هتلر 1945 لتنتحر معه بعد اربعين ساعة فقط عقب الزواج وهى لا تزال فى الثلاثة والثلاثين من عمرها .. ولا أتحدث هنا عن هتلر وجرائمه وحرب العالمية إنما أتحدث عن إمراة أحبت فى صمت وعاشت عاشقة وظلت بجوار من أحبته حتى النهاية .. أحبته زعيما ناجحا وقويا وظلت تحبه قائدا فاشلا ومهزوما .. وبدوت كاننى أبحث فى وجوه السيدات حولى فى الميدان عن إيفا براون التى لولا أن هتلر كان هو حبيبها لأصبحت إيفا مثالا للمرأة حين تقع فى الحب
وتعددت زياراتى لميدان مارين بلاتس وأكشاك الطعام بوجباتها البسيطة التى يمكن تحمل تكلفتها وسوق فيكتوالين بمحلاته الفخمة التى يكتفى فيها كثيرون بمجرد الخيال والفرجة تماما مثل محلات شارع ماكميليان الذى يؤكد أهل ميونيخ أنه من أشهر وأغلى شوارع اوروبا وهو حديث يحتاج لكثير جدا من المراجعة .. وكان قريبا أيضا من الميدان فندق بيرنشهوف والأهم من الفندق كان تمثال الموسيقار القديم أورلاندو دى لاسو الذى أحاله أهل ميونيخ إلى نصب تذكارى دائم لتكريم المطرب الأمريكى مايكل جاكسون الذى رحل 2009 .. وكان مايكل يحب ميونيخ وزارها 6 مرات وغنى فيها كثيرا فبادلته ميونيخ الحب واعتاد اهلها تعليق صوره فوق تمثال دى لاسو وإيقاد الشموع .. كان ذلك كله تعبيرا عن حب الناس لفنان غائب دون أى قرار رسمى ودون اى تدخل من السلطات .. وحين وقفت امام هذا النصب التذكارى تذكرت أكثر أغنية أحبها لمايكل جاكسون التى غناها 1996 .. إنهم حقا لا يهتمون بنا .. إضربنى إكرهنى لكنك لن تستطيع ان تكسرنى .. صنفنى أبيض أو أسود لكنك لن تستطيع ان تقتلنى .. ولم أستطع البقاء طويلا فى حديقة الألعاب الأوليمبية على ضفاف نهر إيسار .. فهذه الدورة كانت أكثر الدورات الأوليمبية حزنا .. وحين قابلت جاك روج حين كان لا يزال رئيسا للجنة الأوليمبية الدولية قال لى أيضا أنه لا يحب أن يتذكر دورة ميونيخ رغم انه كان لاعبا شارك فيها ولا يحب اى شىء له علاقة بهذه الدورة ورفض أيضا أن يشاهد فيلم ميونيخ لستيفن سبيلبرج
ويبقى أهم ما قمت به فى مدينة ميونيخ هو قيادة أكثر من طراز لسيارات المينى كوبر والسير بها فى شوارع المدينة وطرقاتها .. ولم تكن أهمية ذلك أنها المرة الأولى التى أقود فيها سيارة فى أوروبا .. ولكن لأننى قبل السفر إلى ميونيخ بعد سنوات تعرضت لحادث سيارة فى مصر استدعى علاجا طويلا فى مدينة براون شفايج فى ألمانيا .. وبعد العلاج قال لى الأطباء أننى بالتأكيد لن أستطيع أبدا الجرى او القفز واحتمال أيضا ألا أستطيع قيادة سيارة .. وبالفعل لم أستطع بعدها الجرى والقفز لكننى لم أستسلم لنصيحة الأطباء باعتزال قيادة السيارات .. ونجحت فى قيادة سيارتى فى مصر ولم يخطر ببالى مطلقا أننى سأعود إلى ألمانيا بالتحديد بعد سنوات قليلة وأقود سيارة جديدة فى شوارع ميونيخ