الطريق
جريدة الطريق

ياسر أيوب يكتب: قطع ذيل الأسد في نيروبى

-

"من كتاب بلاد على ورق"، لم يكن الجوع أو حب مفاجىء للفراخ هو الذى جعلنا نخرج لشوارع نيروبى بعد منتصف الليل بحثا عن أى محل يمكن أن نشترى منه الفراخ .. إنما كان مجرد محاولة جماعية أخيرة للهرب من التوتر والخوف قبل أن تبدأ فى الغد خامس بطولة أفريقية لأندية الهوكى تستضيفها العاصمة الكينية .. ولم أسافر مع فريق هوكى الشرقية إلى نيروبى فى 1992 كصحفى يسافر مع فريق رياضى .. فالعلاقة بينى وهذا الفريق كانت أكبر وأعمق من ذلك .. ليس فقط بحكم انتماء مشترك لمدينة الزقازيق .. لكن للحروب الكثيرة التى خضتها دفاعا عن هوكى الشرقية ضد كل الذين لم تسعدهم نجاحاته وبطولاته .. فحين استضافت القاهرة 1988 أول بطولة أفريقية لأندية الهوكى .. لم يتخيل أحد أن يفوز بها أبناء الزقازيق البسطاء والفقراء الذين لا يعرفهم أحد .. وعاد هؤلاء البسطاء المجهولون وفازوا بالبطولة الثانية فى مالاوى .. والثالثة فى فى المغرب .. والرابعة فى زيمبابوى .. وكل ذلك رآته القاهرة ومعها آخرون فى الاتحادين المصرى والأفريقى للهوكى كثيرا جدا على مدينة صغيرة مثل الزقازيق .. وباتت أمنية الجميع المعلنة وغير المعلنة هى ألا يعود هوكى الشرقية من نيربى بخامس بطولة على التوالى .. ولا أنسى عبارة قالها محيى زغلول المدير الفنى لهوكى الشرقية فى مطار القاهرة قبل الصعود للطائرة حين أكد أن خسارة البطولة فى نيروبى هى الفرصة الوحيدة للاعبى هوكى الشرقية لينالوا حقهم من الشهرة والأضواء .. فحين يفوزون لا أحد يتحدث أو يكتب عنهم .. وكانت المفاجأة الجميلة حين فوجىء ركاب الطائرة المصرية بقائدها إيهاب عبد العزيز يعلن قرب الهبوط فى مطار جوموكينياتا الدولى متمنيا الفوز لأبطال هوكى الشرقية
ولم نكن فى نيروبى مثل الفريق المصرى الثانى فى البطولة وهو اتحاد الشرطة الذى أقام فى فندق جميل عبارة عن فيلا ضخمة .. كنا فريقا لا يملك الكثير من المال وأقمنا فى فندق شديد التواضع فى وسط مدينة نيروبى .. وأصبحت مهمة إبراهيم فوزى مدير الفريق هى تدبير إقامة وطعام الفريق بأقل تكاليف ممكنة .. فأصبح الأناناس بديلا عن الطعام فى كثير من الأوقات .. وكانت الفراخ التى بحثنا عنها ليلة البطولة مجرد استثناء .. فلا أحد يهتم بطعام أو راحة أو رفاهية لأن الهدف الوحيد للجميع كان الفوز بالبطولة .. وبالفعل فاز هوكى الشرقية فى مباراته الأولى على اتحاد الشرطة .. ثم على نيالا بطل مالاوى .. وبعد اعتذار فريق نيالا بطل نيجيريا .. كان هناك يومان أجازة لهوكى الشرقية قررت استغلالهما فى الفرجة على نيروبى .. أشهر وأهم مدن الشرق الأفريقى ومعقل قبائل الماساى الشهيرة التى منحت المدينة اسمها .. فنيروبى تعنى الماء البارد .. ومن السماء تبدو نيروبى كغابة محاطة بجبال كلمنجارو وكينياتا ونونج .. غابة تنازلت عن بعض أشجارها ووضعت مكانها بيوتا ومبانى وشوارع .. وإذا كانت كينيا تضم 43 قبيلة .. فكلها ممثلة فى نيروبى التى تعلمت للمحافظة على جمالها وبقائها أن تتعايش مع الغنى والفقر والأهل والغرباء وكل ألوان البشر سواء الأسود أو الأبيض أو الأصفر .. فنيروبى فى الحقيقة ليست مدينة واحدة إنما ثلاث مدن متداخلة .. نيروبى الأفريقية ونيروبى الإنجليزية ونيروبى الهندية .. وفى مشاويرى الكثيرة فى نيروبى كنت أشعر أحيانا أننى فى جزء من لندن بالمكتبات وأسماء المحلات الإنجليزية والسيارات على يسار الطريق .. وأحيانا أخرى كأننى فى أى مدينة أفريقية أخرى وأحيانا فى مدينة بومباى الهندية

وفى أول أيام البطولة أعلنت أمهات المعتقلين السياسيين انهاء إضرابهن عن الطعام لكن استمرت اضطرابات وتوتر المعارضين للحكومة وأبرزهم قبيلة الكيوكيو التى ينتمى إليه جومو كينياتا أول رئيس لكينيا بعد استقلالها .. ويريد هؤلاء إبعاد الهنود الذين يتهمونهم باستنزاف ثروات البلد واموال الفقراء السود
وجاء المطر مع بدء البطولة بعد غياب طويل .. وتظاهرت شوارع بهدوء ينكسر بين الحين والآخر .. ودام زحام سيارات الميكروباس والمتسولين وباعة الصحف وفتيات الهوى اللاتى قضين على فريقى غانا ومالاوى .. وتوقعت صحافة كينيا منذ البداية أن يتنافس على كأس البطولة هوكى الشرقية مع سيمبا يونيون بطل كينيا الذى سيلعب على أرضه ووسط جماهيره المتعصبة .. ومعظم هذه الجماهير من الهنود .. فحين قرر الإنجليز مد السكك الحديدية فى كينيا جاء عمال كثيرون من الهند ولم يعودوا بعد انتهاء العمل .. فاستوطنوا كينيا وعاشوا فى نيروبى وغيرها بكل عاداتهم وطعامهم وثيابهم والعابهم أيضا التى منها الهوكى .. وأسست طائفة الهنود السيخ فريق سيمبا يونيون للهوكى .. ومعنى الإسم هو اتحاد الأسود .. وكانوا يرون أنه آن الآوان ليفوز ناديهم ببطولة أفريقيا بدلا من المصريين الذين يمثلهم هوكى الشرقية الفائز بكل البطولات السابقة
وبعد حياة صعبة مليئة بالتقشف عشناها لمدة يومين .. سمح إبراهيم فوزى بالانتقال لفندق أجمل وأكبر بعدما اكتشف أن فارق الأسعار ليس كبيرا لكن تعمد المسئولون اختيار هذا الفندق المتواضع لهوكى الشرقية على امل أن يؤثر ذلك فى أدائهم أثناء اللعب .. وقام مروان بدر سفير مصر فى نيروبى بدعوة الجميع للإفطار فى السفارة المصرية حضره أيضا محمود بركات رجل الاعمال المصرى المقيم فى كينيا وعاشق الهوكى والكابتن القديم للهوكى فى نادى الجزيرة .. وبعد الفوز على بطل غانا .. كانت المواجهة الصعبة بين هوكى الشرقية وسيمبا يونيون .. وضحكت حين قال لى بائع الصحف عند محطة القطار الرئيسية الذى اعتدت الذهاب إليه يوميا لشراء الصحف أنه يوافق على أن يفوز هوكى الشرقية على سيمبا يونيون مقابل أن يسمح المصريون بفوز ليوبارد الكينى على الأهلى الذى سيلعب معه فى نفس الأسبوع .. ورغم انتهاء المباراة بالتعادل إلا أن الهنود كانوا فى غاية الثورة والغضب .. وحين توجه لاعبو الشرقية إلى الأوتوبيس .. فوجئوا بالجمهور يقذفهم بالحجارة فاضطر اللاعبون للبقاء فى الملعب أكثر من ساعة .. وقال لى السفير مروان بدر أنه سيجرى اتصالات بوزارتى الرياضة والداخلية لتأمين بعثتى الشرقية واتحاد الشرطة .. ووفقا لنظام البطولة .. لابد ان يلعب الناديان الأول والثانى مباراة فاصلة لتحديد البطل .. وهكذا تعين على هوكى الشرقية مواجهة سيمبا يونيون من جديد .. ووسط هنود كثيرين جاءوا بمنتهى التحفز لتشجيع فريقهم .. جلس فى المدرجات لاعبو ومسئولو اتحاد الشرطة يشجعون هوكى الشرقية بمنتهى الحماسة والحب .. ورغم عددهم القليل كان صوتهم أعلى وتشجيعهم أجمل وهم يهتفون لمصر وهوكى الشرقية .. وكانت لحظة مصرية جميلة اختفت فيها أى حواجز وفاصل وحساسيات قديمة ولم يبق إلا مصر والمصريون .. ومن جديد فاز هوكى الشرقية ويصبح بطلا لأفريقيا للمرة الخامسة على التوالى .. وأصر لاعبو الشرقية على وضع علم كبير لمصر فوق الأوتوبيس وطافوا به شوارع نيروبى احتفالا بقطع ذيل الأسد
وفى الفندق .. كان العاملون سعداء للغاية بهذا الانتصار وطلبوا قمصان اللاعبين .. وقال لى أحد العاملين أنه سيعود اليوم إلى أولاده ومعه مضرب هوكى سيقول لهم انه مضرب أحد أبطال أفريقيا .. ولم يصدق لاعبو الشرقية أنفسهم حين أخبرهم إبراهيم فوزى بمكافآة قيمتها 100 دولار أى 330 جنيها لكل لاعب إلى جانب دعوة لحفل عشاء فى أحد مطاعم نيروبى لتناول لحم الغزلان والتماسيح بعد عشرة أيام قضاها اللاعبون لا يعرفون إلا التدريب واللعب وحلم البطولة .. وبالإضافة لذلك كان الوعد بكيلو شاى لكل لاعب سيشتربه لهم إبراهيم فوزى من مطار نيروبى .. ومن فرط الإنفعال قام اللاعبون بإلقاء أنفسهم فى حمام سباحة الفندق بثيابهم وسط تصفيق حاد من نزلاء الفندق والعاملين فيه
وبعد 24 عاما .. عدت إلى نيروبى مرة أخرى حين دعانى ماجد سامى لحضور افتتاح نادى وادى دجله فى نيروبى .. كانت رحلة لمدة 48 ساعة فقط لكنها كانت كافية لرؤية كيف تغيرت نيروبى تماما وكيف أصبحت أكبر وأجمل .. وأقام ماجد سامى هذا النادى فى ضاحية روندا .. وكان ناديا على الطريقة المصرية وليست الكينية .. وفى صحيفة نيشين التى هى الأكبر والأهم فى كينيا .. كتبت سيليستين أوليلو تشرح سر هذا الإهتمام الرسمى والشعبى فى بلادها بهذا النادى الجديد وما يحويه من ملاعب وصالات وحدائق لدرجة أن الرئيس الكينى أورو كينياتا كان أكثر الجميع سعادة وحماسة لما سيقدمه هؤلاء المصريون للشعب الكينى .. لدرجة أن يحرص الرئيس كينياتا على استقبال ماجد وعادل سامى وماجد حلمى فى مكتبه الرئاسى قبل افتتاح النادى ويوجه لهم التحية والشكر نيابة عن الشعب الكينى .. وهو نفس ما كتبته وقالته صحف أخرى وشبكات راديو وتليفزيون ومواقع إليكترونية طيلة الأسبوع الماضى عن نفس هذا النادى ومعناه وقيمته وضرورته وأصحابه .. فالأندية المصرية بشكلها الحالى هى خلطة لا تعرفها بلدان العالم التى لا تملك إلا أندية رياضية فقط أو اندية اجتماعية فقط .. أندية إما تمارس الرياضة بلا أى نشاط اجتماعى على الإطلاق أو مجرد حدائق ومطاعم وقاعات للإجتماعات .. وحدها الأندية المصرية هى التى تملك كل شىء وتقدم كل هذه الخدمات .. خلطة كان الإنجليز هم الذين ابتكروها حين أسسوا عام 1883 نادى الجزيرة كأول ناد رياضى فى مصر .. ولأن الضباط الإنجليز كان يخشون الخروج خارج أسوار ناديهم فقد ابتكروا نظام توفير كل الخدمات الرياضية والإجتماعية والإدارية والإنسانية داخل نفس النادى .. وورثنا كلنا هذا النظام الذى لا يزال قائما حتى اليوم لدرجة أنه بات نظاما مصريا شديد الخصوصية والتميز .. نظام اكتشف مسئولو وادى دجلة أنه قابل للتصدير أيضا .. راهنوا على ذلك وكسبوا الرهان .. فالكينيون فوجئوا بهذا الشكل للأندية وفرحوا به وأقبلوا عليه أيضا بعد أن أصبح الرئيس هو صاحب العضوية رقم 1 .. انبهر الجميع هناك بفكرة مزج كل الأنشطة والاهتمامات للأسرة كلها داخل مكان واحد.