الطريق
جريدة الطريق

الناقد السينمائي شربل الغاوي يكتب بيار داغر: هدوء الأداء في عالم التمثيل والفن

-

عندما يذكر اسم بيار داغر، يتبادر إلى الأذهان فورًا ذلك الحضور الآسر والأداء الذي يخترق جدران القلوب. إنه الفنان الذي حمل في أدائه عبق الأصالة اللبنانية، وصاغ بأسلوبه بصمة فنية تجاوزت حدود الوطن، لتصل إلى آفاق الدراما العربية برقيها وأصالتها. بيار داغر ليس مجرد ممثل؛ إنه حالة فنية متكاملة، ورحلة من العطاء الممزوج بالتأمل والابتكار.
منذ خطواته الأولى على خشبة المسرح وشاشات التلفزة، برز بيار كصانع للحظات المؤثرة ومُعبّر عن المشاعر الإنسانية العميقة. أدواره ليست مجرد شخصيات تقرأ من الورق، بل حيوات تُستدعى إلى الشاشة، تتنفس وتعيش بفضل موهبته الفذّة. كان بيار وما يزال تجسيدًا لما يجب أن يكون عليه الفنان الحقيقي: صورة للحقيقة، ومرآة تنعكس فيها معاناة الإنسان وصراعه مع الحياة.
الرقي في الأداء والصدق في التمثيل يتميز بيار داغر بأداء يتجاوز السطحيات ويغوص عميقًا في أعماق النفس البشرية. كل شخصية يتقمصها تبدو وكأنها وُلدت لتكون على يديه، بفضل إتقانه الذي يوازن بين الرقي الفني والبساطة المؤثرة. تلك القدرة الفريدة جعلت منه ممثلًا قادرًا على ملامسة أوتار الروح بصمت أحيانًا، وبكلمات قليلة في أحيان أخرى.
في مسلسل القدر، يتجلى دور بيار من خلال شخصية “سامر”، الرجل الذي تلاشت حياته بين قسوة القدر وجبروت البشر. سامر، الذي سُلبت منه عائلته ظلماً على يد عائلة زوجته، عائلة نصر، لم يكتفوا بإبعاده عن زوجته وابنه، بل أذاقوه مرارةً أعمق بإقناعهم عائلته بأنه قد توفي. سنوات مرت، عاش خلالها سامر أسير جراحه، بينما عائلته ترزح تحت وطأة الحزن والوهم. ومع ذلك، لم يكن الألم مجرد ظلال صامتة في حياته، بل كان يملأ كل حركة ونظرة، ليُقدم بيار هذه الشخصية بأداء مغاير يفيض بالعمق والهدوء، ليُبرز صراع الإنسان مع حرمانه دون صخب.
لكن القصة تأخذ منعطفاً حاسماً عندما يقرر سامر أن ينتفض على واقعه، عائداً إلى الحياة بهوية جديدة تحت اسم “إيهاب”. هدفه الوحيد: أن يلتقي بابنه الذي كبر بعيداً عنه، دون أن يعرفه أو يدرك حقيقة والده. في هذه اللحظة، يكشف بيار عن أبعاد جديدة لشخصية سامر، إذ تتداخل مشاعر الفقد، الحب، والشوق في كل كلمة وحركة. إلا أن اللقاء الذي كان من المفترض أن يعيد الحياة إلى قلب سامر يتحول إلى مأساة جديدة، حيث تكتشف عائلة نصر، عائلة زوجته، عودته فتختطفه وتضغط عليه بكل الوسائل ليعود إلى الظلال ويختفي من جديد.
أداء بيار في هذا الدور لم يكن مجرد تمثيل؛ كان انعكاساً صادقاً لرجل يكافح ضد الظلم والحرمان، رجل خاض معركة صامتة مع مصير قاسٍ، ليُظهر لنا كيف يمكن للحب أن يصبح معركة حين يُحاط بالمؤامرات والقيود.
ما وراء الفن: رؤية بيار داغر للفن والإنسانية الفن بالنسبة لبيار داغر ليس مجرد أدوار تُكتب وتُمثل، بل هو أداة لاستكشاف الإنسان ومساءلة القيم والمشاعر. في كل عمل يقدمه، يترك أثرًا يشبه بصمة لا تُمحى. يرفض الأداء السطحي ويميل إلى التحدي، فيبحث عن الأدوار التي تحمل في طياتها عمقًا فلسفيًا وإنسانيًا.
إنه يُجسد الشخصيات التي تتحدى الإنسان وواقعه، والتي تحمل رسالة تُعبر عن صراعات حقيقية. هذه الرسائل لم تكن مجرد محتوى درامي، بل مواقف حياتية أضحت محور اهتمام كل من شاهد أعماله. وربما هذا هو السر الذي جعل بيار قادرًا على استقطاب القلوب وإشعال الفكر في آن واحد.
التنوع: رحلة بين الدراما والسينما والمسرح بيار داغر ليس فنانًا يقتصر على نوع واحد من الأداء، بل هو ممثل متعدد الأبعاد، قادر على التنقل بين ألوان مختلفة من الفن. بين الدراما التلفزيونية والسينما والمسرح، قدّم أعمالًا متنوعة، وكل تجربة كانت إضافة مميزة إلى إرثه الفني. تلك الرحلة جعلته أحد أبرز الوجوه الفنية التي لا تتوقف عند حدود التقليد، بل تسعى دائمًا إلى التجديد.
في السينما، نجح بيار في تقديم شخصيات تخاطب الجمهور بعين الواقع، حيث بدا وكأنه يستوحي تلك الأدوار من تفاصيل الحياة اليومية. أما على خشبة المسرح، فكان حضوره طاغيًا، يجسد من خلاله قيمة التفاعل الحي بين الفنان والجمهور.
هدوء يغزو القلوب يمتلك بيار داغر أسلوبًا مميزًا في الأداء يعتمد على الهدوء المدروس. ذلك الهدوء ليس غيابًا للمشاعر، بل هو طوفان داخلي يعبر عنه بذكاء وعمق. إنه الفنان الذي لا يحتاج إلى الصراخ أو المبالغة ليصل إلى المشاهد، بل يعتمد على لغة العيون والإيماءات البسيطة التي تنقل المعنى بكل صدق.
عندما نشاهد بيار على الشاشة، نشعر وكأننا أمام مرآة تعكس مشاعرنا الخفية. إنه الفنان الذي يجعل الصمت أبلغ من الكلام، والهدوء أكثر ضجيجًا من الصراخ. هذا الأسلوب جعله واحدًا من أكثر الفنانين تأثيرًا في الدراما العربية، حيث استطاع أن يحفر مكانته في ذاكرة الجمهور بكل تفاصيلها.
بيار داغر: رمز الأصالة والبساطة
بعيدًا عن الأضواء، يحتفظ بيار داغر بشخصية تتسم بالتواضع والبساطة، ما يجعل محبيه يرونه ليس فقط كفنان عظيم، بل أيضًا كإنسان أصيل. هذه الشخصية المتزنة، التي تجمع بين العمق الفني والبساطة الإنسانية، جعلت منه مثالًا يُحتذى به في عالم يزداد تعقيدًا وضجيجًا.
بيار داغر، فنان بمقاييس غير تقليدية
في عصر يميل فيه البعض إلى المبالغة والتصنع، يبرز بيار داغر كنموذج للفنان الحقيقي الذي يترك أثره دون تكلف إنه الفنان الذي يعي أن الفن رسالة، وأن التمثيل هو دعوة للتأمل والتغيير.
بيار داغر ليس مجرد اسم في قائمة الممثلين، بل هو علامة فارقة في الدراما اللبنانية والعربية. عبر مسيرته الطويلة، أثبت أن الأداء الراقي والهادئ قادر على الوصول إلى القلوب، وأن الفن الحقيقي هو الذي يُلهمنا ويدفعنا لنكون أفضل. بيار داغر هو قصة من قصص الإبداع، وحكاية فنية لا تنتهي فصولها.