الدولة العباسية.. كيف وصل التنظيم السري لكرسي الحكم؟.. إمام من آل البيت حكم الدعاة تحت قيادته

سلالة العباس عم الرسول.. من الدعوة في الخفاء إلى كرسي الحكم
التنظيم ينجح في إنهاء الحكم الأموي بالخلايا السرية وإثارة الفتن
قائد نقباء العباسيين يوصيهم:
لا تدخلوا بينكم أهل السخف والطمع والضعف.. لا تحاسدوا ولا تنافسوا
المساواة.. الإمامة لآل محمد.. الإصلاح.. أهم شعارات الثورة
الثورة ليست نزهة تستغرق عدة أيام في ترديد الهتافات والقفشات والهزار، والبحث عن قائد غير موجود!
الثورة هذه المرة غيرت التركيبة السكانية لجانب هام من كوكب الأرض بلا مبالغة، يشمل اليمن وإيران وتركمانستان ومصر والعراق وأفغانستان والهند وغيرها، وجعلت الفارسي يتقن العربية، والعربي يتقن الفارسية، وأهل الحكم مشردون مطلوبون للإعدام، وأهل المعارضة حكام بلدان أقاليم.
والثورة جعلت سلالة العباس من بني هاشم حكاما على إمارة إسلامية ممتدة من أطراف الصين حتى فرنسا، ومن المغرب والأندلس حتى ما وراء النهر، وجعلت من بني أمية الفاتحين الغزاة لكل هذا الملك، مجرد فلول يتعرضون للإبادة رأسا تلو الرأس!
اسمحوا لي أن أتحدث بكثير من الإيجاز عن تأسيس الدولة العباسية في بداياتها، لأن التفصيل يلزمه مجلدات لن تفي أيضا بهذه الحقبة، وما تبعها من تغييرات سياسية واجتماعية واقتصادية ضخمة في بلاد المسلمين، لذا سأسعى ما أمكنني لمشاركتكم تجربة هامة في التنظيم السري للثورة العباسية.
كتمان السر
لابد أن حفظ السر والتمتع بأعلى درجات الكتمان والاتزان كانت سببا رئيسيا في نجاح ثورة العباسيين، وإلا كيف استمرت الدعوة للخلافة 30 عاما صلبة متماسكة كل هذه المدة، وإن شابها بعض حملات الاعتقال أو القتل؟
وضع بنو عباس في بداية دعوتهم منهجا أصبح مثالا يحتذى في التنظيم السري، طبقته بعض الدول فيما بعد..
وانتهج العباسيون الأوائل الأسلوب السري بعد تعاقب العديد من الكوارث التي لاحقت أهل بيت النبي من العلويين طيلة العصر الأموي، وسط سعي دؤوب من الأمويين للتنكيل بآل البيت بحيث لا تقوم لهم قائمة.
الدكتور محمد الصلابي يرى في دراسته "الدعوة العباسية ودورها في نهاية الدولة الأموية" أن الدعوة العباسية تعمقت في نفوس الأتباع، وانتشرت فكرتها وعقدوا آمالهم عليها، باعتبارها دعوة آل البيت، وهي التي ستخلصهم من الدولة الأموية، كما ستعيد لهم عزهم وسلطانهم القديم.
بدأ التنظيم بدعوة سرية من محمد بن علي بن عبد الله بن العباس عم النبي. ولكي نعرف من هو "محمد" هذا سأذكر بعض ما جاء في دراسة هامة هي "تاريخ الخلافة العباسية" كتبها الدكتور شمس الله جلالي، يروي فيها أن "علي بن عبد الله بن عباس هو أول شخصية عباسية كانت لها مطامح سياسية تصل إلى حد العمل لإزالة ملك بني أمية"، والرغبة الجامحة في تأسيس الدعوة لبني العباس، وقد بقي على ذلك حياته كلها حتى مات سنة 118 من الهجرة في خلافة هشام بن عبد الملك.
وكان لعلي أولاد كثيرون بلغوا 22 ذكراً، منهم محمد، الذي قال عنه ابن حزم: "وفيه البيت والعدد والخلافة"، وكان محمد أكبر إخوته.. رأى وعايش بنفسه ما جرى لأبيه على يد الوليد بن عبد الملك، فورث منه الحنق على الأمويين والرغبة الشديدة في الإطاحة بهم.
مطالب العباسيين
بدأت الحركة العباسية في تأليب الرأي العام في بلاد الخلافة الإسلامية، وفي مقدمتها العراق مقر الحكم، وإيران البعيدة عن أيدي الأمويين وفيها أعداد غفيرة من الحانقين على الحكم الأموي.. أخذت تثير الرأي العام ضد بني أمية، بإظهار سلبياتهم وتجاوزاتهم والتركيز على الأحداث المأساوية التي لحقت بآل البيت، كما دعت الحركة للعمل بالكتاب والسنة، والمساوة والعدل والإصلاح، مع إثارة الشعور بالسخط العام والتذمر لدى المظلومين من العرب أنفسهم وحتى الموالي (المسلمين من غير العرب). ثم الدعوة لـ "الرضا" من آل محمد، أي نقل السلطة إلى بيت النبي مجددا، دون تسمية شخص بعينه، بهدف ربط الدعوة بفرد وفكرة محددة حتى لا تضعف إذا مات أو قتل محمد أو ابنه كما سيحدث فيما بعد، وبهدف جلب أتباع العلويين إلى الحركة.
كما بدأت الحركة تربي الأتباع الذين ينضمون للدعوة وتهيئتهم لتحمل مشاقها وبذل التضحيات في سبيلها، وتعويدهم على العمل السري والصبر عليه، وعدم العصيان العسكري والتمرد على السلطة الحاكمة قبل صدور الأوامر بذلك مهما طالت المدة، رغم كل ما تعرض له الأتباع من مضايقة وتضييق وتعذيب وقتل، ضمانا لاستمرار الدعوة.
النقباء والدعاة
قامت الدعوة السرية حول إمام من آل البيت يدير دفة الحركات السرية، ويرعى التنظيمات تحت قيادته، ويوجه النقباء والدعاة ويقودهم، حيث وضع المشرفون على الدعوة العباسية تنظيما إداريا سريا تضمن سلسلة من المراتب بشكل تسلسلي بهدف تيسير مهمة القائمين بها، تبدأ هذه السلسلة بمرتبة النقباء من مساعدي الأئمة، وعددهم اثني عشر نقيبا، وهم وحدهم يعرفون سر الإمام ويحتفظون به لأنفسهم، وكانوا على نفس الكفاءة من القدرات العسكرية والثقافية والإخلاص للدعوة والقدرة على استقطاب الأنصار بسرية.
ويأتي بعد مرتبة النقيب مرتبطة "نظراء النقباء" وعددهم اثني عشر، والنظير يحل محل النقيب عند وفاته، ويساعد النقباء عددا من الدعاة يبلغ عددهم 70 داعيا، يتمتعون بقدرات دعائية وعسكرية مماثلة, وهم الموكلين بإعداد الأنصار نفسيا وثقافيا وتأهيلهم للثورة.
يلي مرتبة الدعاة مرتبة دعاة الدعاة، ثم طبقة "العمال"، وكان لكل داع عدد من العاملين يديرون الجهاز السري، وينتهي هذا الجهاز بخلايا صغيرة تتوغل في عمق المجتمعات في كافة البلدان الإسلامية.. هذا ما يخبرنا به المؤرخ اللبناني الدكتور محمد سهيل طقوش في كتابه "تاريخ الدولة العباسية".
وقامت أفكار هذا الجهاز السري على شعارات دعائية هي المساواة والإمامة للرضا من آل محمد، والدعوة إلى الإصلاح.
ثم يخبرنا مخطوط هام هو "أخبار الدولة العباسية" مجهول المؤلف، وأصبح مرجعا هاما يتم الاستناد إليه في تأريخ حكم العباسيين، أن ذلك التنظيم السري استند إلى القرآن الكريم، فيذكر مؤلف الكتاب أن بكير بن ماهان الذي أنشأ مجلس النقباء، "جمع الشيعة لما اضطرب أمر خراسان (معظمها في إيران) في منزل سليمان ابن كثير فقال لهم: يا معشر الشيعة إن الله قد ساق إليكم من كرامتهم فيما بصركم من هداه ما لم يسقه إلى عامة هذا الخلق، وألّف بينكم بالحق وأعزكم به وجعل سببه أقوى من سبب الأنساب، فإن تناصحتم قويتم، وإن ابتغيتم إيمانكم هديتم، وقد يحمد الله كثيرا ممن يستجيب لكم وتسارع الناس إلى دعوتكم، ومتى تدعوا إلى التثبيت فيمن يأتيكم لا يؤمن أن يدخل عليكم من ليس شأنه شأنكم من أهل السخف والطمع والضعف".
ثم يضع بكير أساسا للنقباء فيقول: وليس للنقيب أن يدعي الفضل على غيره بالنقابة، وإنما الفاضل بالعمل".
فقال أتباعه وهم جالسون حوله: قد رضينا وسمعنا وأطعنا فأنفذ رأيك.
قال الرجل: لا تحاسدوا ولا تنافسوا في النقابة فإن الفضل في ذلك بالعمل لا بالنقابة. قالوا: نعم قد رضينا. قال: اكتب يا أبا صالح (أحد قيادات الشيعة الحضور في هذه الجلسة التاريخية) فكتب ما يشبه المنشور الذي سيتأسس عليه عمل الحركة السرية..
"إن الله يقول: "واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا". ثم قال في آية أخرى: "وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا"، وإن رسول الله وافاه ليلة العقبة سبعون رجلا من الأوس والخزرج فبايعوه، فجعل منهم اثني عشر نقيبا، فإن سنتكم سنة بني إسرائيل.
فاجتمعوا على اختيار الاثني عشر نقيبا من أهل مرو (في تركمانستان) وكان معظمهم من الموالي غير العرب، ثم اختاروا بقية السبعين رجلا من أهل مرو وخراسان.
من الدعوة إلى الثورة
الآن أخرج من فصل هام جدا عن الجهاز السري للدعوة، إلى نطاق أكثر اتساعا ورحابة.. حيث الأيام التي عاشها الناس في هذه الأيام، وخروج الدعوة من السر إلى العلن..
طبقا لما يذكره الدكتور محمد سهيل طقوش، فإن الدعوة حين أصبحت في يد الإمام محمد بن علي العباسي، أخذ ينظمها من مقره في الحميمة، وهي قرية أردنية أصبحت فيما بعد قاعدة انطلاق للخلافة العباسية، كما أخذ يدير شؤونها ويرسل الدعاة والنقباء إلى الجهات الملائمة لها وأهمها خراسان، التي تعتبر "رأس العرب وفرسانها"، عن طريق شبكة سرية متعددة الحلقات حملت اسم "دعوة آل البيت".
وطالما أن الدعوة قد انطلقت من السر إلى العلن، فقد مضى العام 128 على خير، ومات محمد ابن علي وأوصى بالخلافة لابنه إبراهيم، وانضمت شخصية في غاية الخطورة إلى الدعوة والثورة وهي أبو مسلم الخراساني، وكان شابا وقتها يبلغ 28 عاما تقريبا، واستمرت حتى العام 132، حيث سقطت الخلافة الأموية وقامت الدولة العباسية.
الخرساني يقود الصراع
وأصل أبو مسلم الخراساني فارسي، وهو شخص ذكي جدا ولماح، مثقف، مؤمن بدعوته، طموح في الملك.
وكان أبو مسلم هذا مولى لجماعة من قبيلة الجعليين في الكوفة، وجده عندهم بعض كبار الدعاة من خراسان أثناء مرورهم على الكوفة فأخذوه معهم وأهدوه للإمام إبراهيم بن علي، الذي إلتمس فيه علامات النجابة والذكاء والقيادة، فاتخذه مولى له وأصبح الرسول بين الإمام والدعاة في خراسان حتى حظي بشرف توليه لأمر الدعوة بخراسان من قبل إبراهيم الإمام.
نشأت الدعوة في خراسان على يديه، وكانت خراسان كما يصفها المؤرخ أحمد أمين في كتابه "ضحى الإسلام" قطرا عظيما، يبلغ ضعف ما يطلق الاسم عليه الآن. تولى هذه الأراضي الفسيحة أمراء من العرب (معظمهم من القبائل اليمنية)، فكانوا يحكمون حكما عربيا قبليا، فأجج نار الحقد بين العرب والفرس، وأشعل أبو مسلم نار الفتن بين العرب أنفسهم بإثارة الوقيعة بينهم.
في هذا الوقت ينشأ تطور خطير في مجريات الأحداث، حيث نشبت ثورات عارمة ضد الأمويين في الكثير من بقاع الدولة الإسلامية، من قبل الخوارج والعلويين بين العشر سنوات الأخيرة في حكم الأمويين.
بين السر والعلن
الآن بدأت الأحداث تتواتر سريعا، وتخرج الدعوة من السر إلى العلن على هيئة ثورة ضد الأمويين.. يقول الدكتور شمس الله جلالي في دراسته: لما كانت ليلة 25 رمضان سنة 129، عقد أبو مسلم اللواء الذي بعث به الإمام إبراهيم، وكان يدعي "الظل" على رمح، وكذلك الراية التي كانت تدعي "السحاب" على رمح آخر، ولبس السواد هو ومن كان معه، وأوقدوا النيران لشيعتهم وجهزوا معسكرهم.
في صباح عيد الفطر، أمر أبو مسلم الخراساني أحد أهم نقباء الحركة ويدعى "سليمان بن كثير" أن يصلي بالناس، وأمره بمخالفة بني أمية والعمل بالسنة بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة، بعكس ما كان عليه بنو أمية الذين يبدأون بالخطبة والأذان ثم الصلاة بالإقامة، ثم أرسل أبو مسلم إلى نصر بن سيار الوالي الأموي رسالة تهديد ووعيد له إن لم ينضم إلى شيعة "الرضا" من آل محمد.
تحرك نصر بن سيار سريعا، فأرسل جيشاً التقى بقوات أبي مسلم الخراساني في قرية "آلين" بقيادة النقيب مالك بن الهيثم الخزاعي الذي تمكن من القضاء على القوة التي أرسلها نصر، وأسر عدداً منهم قتلهم أبو مسلم، إلا القائد يزيد الذي داوى جروحه ثم أرسله إلى نصر ليخبره وجماعته بأحوال العباسيين.
انتصرت قوات أبو مسلم الخراساني حتى وصلوا إلى الكوفة وأعلنوا الخلافة العباسية، بعد أن احتلوا مدينة مرو وأرغموا قوات بني أمية على الهروب منها، ثم توجهت قوات العباسيين إلى نيسابور واستولت عليها بالحروب، ثم احتلوا مدينة الري ومنها إلى همذان في عام 131 هجرية، ثم فتحت نهاوند.
تعرض "إبراهيم" قائد الحركة العباسية للسجن في مدينة حران حتى قتل، وتولى أخوه أبو العباس عبد الله شؤون الحركة العباسية.. وحينها تولى الحكم فكان أول الخلفاء العباسيين، في خطبة مهيبة ختمها قائلا:
ـ أنا السفاح المبيح والثائر الكبير.. ولكن لهذا قصة طويلة عريضة، سيكتب عنها العبد لله في حلقات تالية على صفحات "الطريق".