الطريق
جريدة الطريق

رحلة البحث عن مسيلمة الكذاب

هيثم خيري -
قُتل في قلب حديقته بالرياض.. وشاهد قبره قائم للاعتبار والتشفي
كان غنياً بين قومه.. حنيفي المذهب.. ادعى النبوة قبل ظهور الإسلام وبعده
تخيل أن يكون اسمك ونسبك وشهرتك وتاريخك الشخصى كله مقترن بـ«الكذاب».
ثم تخيل للمرة الثانية أنك صرت فى عداد الأموات، وتغير اسمك من مسيلمة اليمامى إلى مسيلمة الكذاب. 
تحامل على نفسك للمرة الأخيرة، وتخيل أنك بعد أن مت، صار لك قبر معروف ومشهور بقبر «مسيلمة الكذاب»، يفد عليه الناس من بقاع الأرض ليشاهدوه ويعتبروا من كذبه، ثم يمشون خطوات قليلة لملاقاة قبور صحابة النبى محمد عليه الصلاة والسلام. 
أقف مرتبكاً جداً أمام هذا الرجل، فإن قلت إن الرجل كان فى سالف العصر وجيهاً بين قومه، سيبدو أننى أبرئ ساحة رجل خسيس دنىء كذب على النبى واختلق قرآناً، وحارب صحابة النبى حتى قُتل، فكيف أتعاطف أو على أقل تقدير أبرئ ساحة رجل بكل هذه الصفات الذميمة، رغم أنى لا أنوى تبرئة ساحته من الأساس.
وإن سايرت الأصوليين وذكرت ما ذكروا عنه، وزدت عليه من ألوان التنكيل، لارتحت ولم يرتح ضميرى بشأن هذا الرجل، ليس لأنه يستحق «تلميع صورته» مثلاً، ولكن لأنه يستحق أن نحكى عنه فى سياق تاريخى أوسع مما جاء به السلف، وإن آثرت السلامة وقررت ألا أكتب عنه، صارت فى نفسى حاجة ملحة للحديث عنه، وقد جاءت الفرصة للكتابة عنه مع «كذبة إبريل»، كنموذج حى منحوت عن شخص سيصبح مضرباً للأمثال فى الكذب المطلق.
أحسن بلاد الله أرضاً
ولد مسيلمة فى بلدة تدعى اليمامة، تقع فى صحراء نجد. يذكر المؤرخ والجغرافى الرائد ياقوت الحموى صاحب كتاب «معجم البلدان» أن اليمامة كانت «أحسن بلاد الله أرضاً، وأكثرها خيراً وشجراً  ونخلاً». تقع بين البحرين والحجاز، وقيل إن «اليمامة» هى نفسها حضرموت فى اليمن.
ومما يعرف عن اليمامة أيضا أنها كانت تخترقها طرق كثيرة للقوافل، تبدأ من نجران وتنتهى عند مصب نهر الفرات ودجلة، وهذا يعنى أنها كانت ذات أهمية إستراتيجية بلا مبالغة، فضلاً عن غناها الاقتصادى. تعرضت اليمامة لغزوات كثيرة بسبب غناها، فانتشرت فيها الديانتان: اليهودية والمسيحية، إضافة إلى الحنيفية. 
كان مسيلمة هذا حنيفياً من اسمه ولقبه، كما يذكره الدكتور جواد على باسم «مسيلمة بن حبيب الحنفى». ويذكره الجاحظ أيضاً بـ«بن حبيب بن الحرب، من بنى حنيفة». 
يقول الباحث التاريخى إبراهيم محمود فى كتابه المهم «البحث عن مسيلمة الكذاب وعبدالله بن سبأ» إن مسيلمة «تأثر بالثقافات الموجودة فى منطقته، وكان له موقف منها، يشار إليه بالبنان، حتى خارج حدود منطقته» وإنه كان سابقاً على النبى، صلى الله عليه وسلم، فى ظهوره وحتى ذيوع صيته بين الناس فى المنطقة.
ويمضى الرجل قائلاً: إننا لا نستبعد أن ما كان يقوم به مسيلمة هو انخراطه فى إطار دعوة دينية واجتماعية قبل ظهور رسالة محمد عليه الصلاة والسلام.
ومما يلفت الانتباه هنا هو عدم ذكر المصادر التاريخية علاقة مسيلمة بالحنيفية، وهل كان خارجاً منها أم لا. ويؤكد الباحث فى كتابه أنه كان حنيفياً بالفعل ولم يكن مسيحياً خالصاً مثلما يذكر الكثير من المؤرخين.
قبل نزول الوحي
تذكر الأخبار أن مسيلمة كان قصيراً شديد الصفرة، أخنس الأنف أفطس. وكان أكبر عمراً من الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه تنبأ بظهور دين جديد قبل نزول الوحى على النبي محمد، وأن أهل مكة كانوا على علم برسالته.
فى عام 632 ميلادية ذهب مسيلمة مع عدد من قومه من بنى حنيفة ممن أسلموا لمبايعة النبى صلى الله عليه وسلم. بايع الجميع محمداً إلا مسيلمة لم يبايعه معهم، وإنما قال جملته الشهيرة: «أريد أن يشركنى محمد معه فى النبوة كما أشرك موسى أخاه هارون»، فسمعه النبى فأمسك عرجوناً صغيراً من الأرض وقال لمسيلمة: والله لإن سألتنى هذا العرجون ما أعطيته لك، فخرج مسيلمة ولم يبايع الرسول عليه الصلاة والسلام.
اقتسام الأرض والسلطة
عاد مسيلمة خائباً إلى اليمامة، وأخبر بعض الناس الذين التقاهم فى طريقه أن محمداً «قد يشركه فى دعوته» وفى النبوة، وحاول أن يرسل رسالة إلى النبى جاء فيها: «من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله: ألا إنى أوتيت الأمر معك فلك نصف الأرض ولى نصفها، ولكن قريشا قوم يظلمون»، أما سيدنا النبى فقد أثبت أمانته وسماحته ووعيه الأخلاقى للعادات المرعية فى العلاقات بين الخصوم، عندما قال لرسولى مسيلمة: «أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما». ثم رد عليه بقوله: «من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، السلام على من اتبع الهدى أما بعد، إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين».
كان هذا موقف الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، من مسيلمة، فكيف كان موقف «بنى حنيفة» منه؟.
يقول ابن إسحق: حدثنى بعض أصحابنا عن عبدالله بن كعب بن مالك: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أتى بنى حنيفة فى منازلهم، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، فلم يكن أحد من العرب أقبح عليه رداً منهم. بمعنى أنهم رفضوا دعوته رفضاً شديداً.
هنا يعود إبراهيم محمود ليقول إن قبيلة حنيفة لم تكن بالشكل الذى نظر إليه مؤرخو العصر، لقد كانت نصرانية فى معظمها. ووقفت من الدعوة الموقف السلبى، لأنها رأت نفسها أنها ستخسر الكثير فى ذلك مادياً ومعنوياً. وليس هناك مصادر كافية تساعد على المضى أكثر من ذلك فى توضيح هذه الصورة.
زواج مصالح!
يضىء الطبرى جوانب أخرى أكثر أهمية من حياة مسيلمة، فيذكر ارتباطه بالكاهنة والمتنبئة سجاح بنت الحايث بن سويد، من بنى تميم، وكانت من ألد أعداء النبى محمد صلى الله عليه وسلم، وترفض دعوته، فتظهر وهى تحاول لملمة صفوف القوم لملاقاة جيش الإسلام، فعرض عليها مسيلمة أن تنضم إليه فى مواجهة المسلمين، وتزوجا فى ظرف أيام قليلة.
ينقل الطبرى صورة «كاريكاتيرية» حول هذه الزيجة، فبعد أن ينصب مسيلمة لها خيمة، ويأمر أصحابه بحراستها، ثم يدخلان الخيمة، فقال: ما أوحى إليك؟ فقالت: هل تكون النساء يبتدئن، ولكن أنت قل ما أوحى إليك؟ قال: أم تر إلى ربك كيف فعل بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من صفاق ومشى. قالت: أشهد أنك نبى، قال: هل لك أن أتزوجك فآكل بقومى وقومك العرب. قالت نعم. وبعد أن يتزوجها مسيلمة يعطيها صداقاً، مقابل زواجه منها.
إلى هنا انتهى العبث بين الزوجين الجديدين، حيث جهز أبوبكر الصديق جيشاً كبيراً لملاقاة مسيلمة، للقضاء عليه وعلى أعوانه وأتباعه، باعتبارهم مرتدين. وكان مع مسيلمة فى حزبه شخص يدعى الرجال بن عنفوة، وهو الذى هاجر من قبل إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فتعلم القرآن وأرسله النبى لأهل اليمامة ليعلمهم، لكنه ارتد، وشهد لمسيلمة بأنه نبى.. أرسل أبوبكر الصديق جيشاً يقوده الصحابى وهزمه هزيمة كبرى، حتى قتل مسيلمة عن عمر 150 عاماً من قبل وحشى بن حرب فى معركة اليمامة عام 12 هجرية.. يذكر الطبرى أن خالد بن الوليد حاول التعرف عليه بعد مقتله فإذا به «رويجل (تصغير رجل) أصيغر أخينس».
مزرعة الموت
فى معركة اليمامة تلك، حمى الوطيس واشتد ضرب سيوفها وطعن رماحها وسهامها بعد شروق الشمس حتى منتصف عصر اليوم نفسه، على أرض براح بالقرب من بلدة «الجبيلة» بصحراء الرياض بالمملكة السعودية، وفض القتال باقتحام الجيش الإسلامى مزرعة كبيرة محصنة التجأ إليها بعض جيش الردة، وعلى رأسهم قائدهم مسيلمة الكذاب، والمزرعة التى تحصن فيها الجيش كانت تعرف باسم مزرعة «الرحمن» وترجع ملكيتها إلى مسيلمة، لكن المسلمين بعد أن رفعوا راية النصر أطلقوا عليها اسم مزرعة حديقة «الموت» لكثرة قتلاها من الجيشين، حددهم المؤرخ الطبرى بسبعة آلاف قتيل. 
ويروى الصحابى أبوسعيد الخدرى الذى شارك فى المعركة بعض تفاصيل المعركة على هذا النحو: «دخلت الحديقة حين حضر وقت الظهر، والقتال مستمر، فأمر خالد بن الوليد المؤذن فأذن على جدار الحديقة لصلاة الظهر، والقوم يجزلون الضرب والطعن حتى انقطعت الحرب بعد العصر.. فصلى بنا خالد الظهر والعصر معا». ووفقا لرواية وردت فى كتاب الردة تُنسب لخالد بن الوليد، فإن القتال توقف تماماً بعد أن صاح أحدهم معلناً مصرع مسيلمة الكذاب.
قتل مسيلمة وصار مضرباً للأمثال فى الكذب والردة عن الإسلام والسفاهة والقبح وقلة الحياء، وفقاً لرواية جميع مؤرخى الإسلام آنذاك بلا استثناء. 
يذكر إبراهيم محمود فى سياق كلامه عن مؤرخى العصر، أنهم لم يقوموا بالتحليل التاريخى لشخصية مسيلمة، ودفنوا كونه كان حنيفياً، واكتفوا بالتاريخ الرسمى المكتوب عن بعضهم البعض.