الطريق
جريدة الطريق

الزنزانة 54 وضريح السيد البدوي.. حكايات لم ينساها السادات (صور)

السادات
محمد الغزيرى -

فى كتابه "البحث عن الذات"، يكشف الرئيس الراحل أنور السادات عن البداية الأولى للتحول الحقيقى فى شخصيته وتاريخه، والتى جعلته فى النهاية يقول: "إن قيمة أنور السادات بداخلى أكبر حتى من رئاسة الجمهورية".

وكانت البداية مع  الزنزانة 54 إلى جانب بعض الشخصيات الأسطورية، والتى كانت تحكيها له جدته فى مرحلة الطفولة، وزرعت بداخله البطولة، كقصة البطل زهران والزعيم مصطفى كامل، وأدهم الشرقاوى.

 ثم تأتى المرحلة الثانية ما بعد الطفولة، وقد تأثر خلالها بالزعيم غاندى، فتقلد نفس ملابسه وصعد إلى سطح منزله بكوبرى القبة، متخيلا بأنه يخطب فى الملايين، لتقف أمامه وحوله الملايين إلى الأبد.

 والمرحلة الثالثة وهى مرحلة شبابه فقد تأثر تأثرا شديدا بزعيم الثورة التركية مصطفى كمال أتاتورك.

أما مصطفى النحاس باشا الذى كان يراه بطل المرحلة ويخرج إلى الشارع مسرعا لمجرد ان يلقى نظرة عليه، سرعان ما تحول إلى عدوا له، بل ويعترف فى "البحث عن الذات" أنه حاول اغتياله بزرع عبوة ناسفة فى طريقه، بعد حادثة 4 فبراير 1942.

ويقول السادات عن الزنزانة 54: فيها بدأت الروابط التي تربطني بمطالب الحياة تنقطع الواحدة بعد الأخري، ولما تخففت الروح من أثقالها تحررت الذات وانطلقت كما ينطلق الطير من قفصه إلي الفضاء الواسع ، إلي الكون بأجمعه.. أنا لم أدرس التصوف ولكن ما وقع في يدي من أقوال وكتابات المتصوفين وجد صدي في نفسي.. ومن أجل هذا كانت الستة شهور الأخيرة لي في الزنزانة 54 ومازالت أسعد أيام حياتي ففيها تعرفت لأول مرة علي هذا العالم الجديد، عالم إنكار الذات إنكارًا تاماً، وعرفت فيه السلام الروحي، و بعدما عرفت صداقة الله تغيرت كثيرا فلم أعد أغضب ابدا إلا في الحق وأصبحت الحياة بالنسبة لي أرحب وأجمل وأوسع، وزادت قدرتي علي التحمل مهما كانت المشاكل التي يجب أن أتحملها، ولم يعد للإنتقام والحقد أي مكان في نفسي، وأصبح إيماني بأن الخير دائما ينتصر.. كانت هذه هى نقطة اتحول الحقيقى فى حياة السادات في كتابه البحث عن الذات.

وفي الزنزانة 54 عرف السادات فلسفة الحب ، فيقول: أكثر ما عانيت منه في الزنزانة 54 هو شعوري بالفراغ العاطفي، فلكي يكون الرجل مكتمل لابد أن تكون له رفيقة تحبه ويحبها ، فهذه أعظم نعمة في الوجود ، فعندما تمتلأ نفس الإنسان بالحب يستطيع أن يتم رسالته ، والحب هو مفتاح لكل شئ ، لكن عندما تجردت من ذاتي في الزنزانة نعمت بصداقة الله وعمر قلبي بحبه وأصبح ظله يحتويني، لقد اكتشفت ذاتي عن طريق الحب، وعندما أنكرت هذه الذات وأذبتها في ذات الكون أصبح الحب الشمولي لمصر – للكون – للخالق – هو المنطق الذي مارست منه ومازلت أمارس واجبي في الحياة حتي عندما كنت عضوا في مجلس قيادة الثورة ، وأنا رئيس جمهورية مصر.

اقرأ أيضا: حكاية قاسم أمين وكيل نيابة طنطا مع النديم خطيب الثورة العرابية وحكم الإعدام

السادات

السادات يبكى داخل الضريح

وكان للزعيم جوانب صوفية عميقة ، دفعته إلي الارتباط روحيا بالعارف بالله السيد البدوي ، ولعل الموقف الأول في حياة السادات داخل ضريحه يمثل جانبا مهما لهذا الارتباط، فيؤكد الكاتب الصحفي الراحل محمود رافع في كتاب الرؤساء وأقطاب الحقيقة إن الرئيس السادات زار ضريح البدوى خلال فترة هروبه من السجن، ودخل عليه الشيخ أحمد حجاب إمام المسجد فوجده يبكي بصوت عال بجانب الضريح فقال له أهلا بك يا خيديو مصر وكان ذلك محل استغراب للسادات فلم يكن معروفا في ذات التوقيت وأمله كان مرتكزا علي العودة إلي عمله في الجيش، ولكن الشيخ حجاب أكدها مرة أخري " سوف تكون رئيسا لمصر" فوقعت هذه الكلمات في نفس السادات ومثت له البشري الأولي برئاسة مصر ، وتعلق السادات بالسيد البدوي أكثر بعدما أصبح رئيسا.

أما الدكتور محمود جامع الصديق المقرب للرئيس السادات، الذي كان يحرص السادات دائما علي زيارته في طنطا، فيؤكد فى كتابه عرفت السادات، إنه كان عالقا بالعارف بالله البدوي، فكان يزوره قبل القرارات المهمة والمصيرية تبركا به ، وزار المسجد قبل انتصار حرب أكتوبر، وقبل معظم القرارات التاريخية.

ويوضح الدكتور جامع فى كتابه: عندما كان الرئيس الراحل يزور مقام البدوي ويصلى الفجر داخل المسجد ويزورنى فى منزلى بمدينة طنطا، اعلم أنه مقبل على قرار وأن مصر ستشهد حدثًا هاما، وكان السادات متعلقا بكبارعلماء مسجد البدوي منهم الشيخ أحمد حجاب، والشيخ الخطيب، واهتم بنهضة العلم والدين بالمسجد، وتطويره.

السادات

اما محمد درويش زهران الفلاح بسيط بطل حادثة دنشواى 1906 والذى صدر ضده حكم الإعدام، بعد أن حمس الفلاحين لضرب الإنجليز وقت إصابة السيدة أم محمد وسقوطها على الأرض واعتقد حينها أنها توفت فنادى على الفلاحين وصرخ فيهم لمواجهة الإنجليز وبذلك اعتبروه زعيم الفلاحين والمحرض الأساسى ضدهم.

 وأثناء القضية أراد أن يخلى مسئولية حسن محفوظ أحد شيوخ القرية الضالعين فى السن، بدافع الشهامة والتضحية المعروفة عنه، لكن الحكم صدر بإعدامه هو الأخر. وكان أخر الذين نفذ فيهم الحكم لأنهم أرادا إذلاله وتصدير الذعر إلى نفسه بمشاهدة وقائع إعدام الثلاثة الأخرين، ولكنه قابل ذلك بكل شجاعة وشموخ وطلب منهم رفع الغمام من على عينيه وعندما تباطئ عشماوى صاح فيه مطالبا بتنفيذ الإعدام سريعا، ولزهران بطولات أخرى تمثلت فى أخذ الأموال والغلال من الأغنياء فى القرية والقرى المجاورة لها ويعطيهم للفقراء والمحتاجين من أهل قريته وإن اضطر للقوة فى ذلك فلقد كان بمثابة زعيم الحرافيش.

اقرأ أيضا: كفره ابن تيمية ورفض أموال الملك الكامل.. ابن الفارض سلطان العاشقين

بين زهران والسادت

ويقول ممدوح زهران حفيد البطل زهران إن اهل دنشواى تعنوا بـ " موال زهران " عبر عشرات السنين وكلماته " زهران فى طلعته للمشنقة، كانوا أربعة ماسكينه، زعق يا أهل البلد الظلم شايفينه، الحكم لو جار بيخلى الشجاع مسكين، والله لو كنت أعلم إن الحكم دا هيجينى لكنت صبحتهم رمة ولا خليت " ويقول الموال أيضا " يوم شنق زهران كان يوم صعب وقفاته، أمه بتبكى عليه فوق السطح وأخواته، وكان له أب ساعة الشنق لم فاته، صبرك علينا يا ظالم بكره راح تندم، أمانة يا دنشواى إن عاد الزمن تانى، شاورى على الظالم وابكى دم من تانى، شاهد وخصم وحكم أيه راح تانى " وهذا هو نفس الموال الذى كانت تحكيه جدة أنور السادات له كل ليلة قبل نومه، ما كان له الأثر العميق فى حياته، وعندما كانت معه زوجته جيهان السادات فى زيارة لقرية ميت أبو الكوم القريبة من دنشواى، اصطحبها لزيارة مسجد سيدى شبل الأسود وبعد صلاة الفجر قال لها سنذهب مكانا إذا شاهدتيه لن تنسيه طوال عمرك وهو متحف دنشواى وهناك حكى لها عن بطولة زهران وتأثره به، وظل السادات وفيا لزهران الذى لم يراه فى حياته، ولكن عرفه من حكايات جدته، وكعادة السدات وبشهامته الريفية المعتادة، كان حريصا على زيارة بنت زهران وكان يناديها: يا خالة سيدة، وقرر منحها معاشا استثنائيا.

السادات

ويقول السادات فى البحث عن الذات، فى رمضان عام 1942 عندما ألقوا القبض علىّ مقابل جهودى فى التخلص من الاستعمال الإنجليزى سرت إلى سجن الأجانب، وطوال الطريق كان يرتفع أمام عينى طيف زهران وهو يسير رافع الرأس، سعيدا بما فعل، لا يخشى الموت الذى سيلقاه، ولقد فعلت أخيرا ما فعله زهران، وإذا غامرنى هذا الشعور أدركت كما لم أدرك من قبل أن زهران لم ينهزم قط، ورغم أنهم حكموا عليه بالإعدام إلا أن إرادته لم تمت، ألم أكن أنا امتدادا لهذه الإرادة التى سرت فى كيانى منذ طفولتى؟ إرادة النصر والتحدى.. بلغنا السجن وإذ كنت أصعد السلم فى طريقى إلى حجرتى كان يغامرنى فرح غريب بما فى داخلى من قوة لا يدرك مداها سواى، لقد انتصرت كما انتصر زهران من قبل رغم موته ورغم تجريدى من رتبتى واعتقالى ورغم كل شئ.