الطريق
الثلاثاء 22 أبريل 2025 02:33 مـ 24 شوال 1446 هـ
جريدة الطريق
رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس التحريرمحمد رجب

شحاته زكريا يكتب: مصر.. معادلة الثوابت والمتغيرات في إقليم مشتعل

شحاته زكريا
شحاته زكريا

عبر العقود الماضية لم تكن السياسة المصرية يوما مجرد استجابة آنية للأحداث بل ظلت تعكس إدراكا عميقا لتعقيدات الجغرافيا السياسية ، وقراءة واعية لمعادلة الثوابت والمتغيرات في إقليم لم يعرف الاستقرار يوما. ومنذ اندلاع العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة ، عادت مصر لتؤكد من جديد أنها الرقم الصعب في معادلات الشرق الأوسط ، وصمام الأمان الذي لا يمكن تجاوزه في أي حسابات تتعلق بمستقبل القضية الفلسطينية.

لم يكن الموقف المصري الرافض للتهجير القسري لسكان غزة مجرد رد فعل عاطفي أو موقفا دعائيا، بل جاء امتدادا لرؤية استراتيجية ترى أن أي محاولة لإعادة تشكيل المشهد الجيوسياسي بالقوة لن تؤدي إلا إلى مزيد من الفوضى، وهو ما يتناقض تماما مع المصالح المصرية التي لا تنفصل عن استقرار الإقليم بأسره. فمنذ اللحظة الأولى كانت الرسالة المصرية واضحة: لا مجال لأي سيناريو يُعيد إنتاج النكبات السابقة ولا حلول تُفرض من خارج السياق التاريخي والجغرافي لهذه الأرض.

القاهرة التي عايشت كافة مراحل الصراع العربي–الإسرائيلي ، تدرك جيدا أن السلام الحقيقي لا يولد من رحم المؤامرات ، ولا يُبنى على حساب حقوق الشعوب. من هنا جاءت تحركاتها الدبلوماسية الحثيثة ليس فقط لمنع تهجير الفلسطينيين ، بل أيضا للحيلولة دون انزلاق المنطقة إلى دوامة جديدة من التصعيد قد تكون تكلفتها هذه المرة أكثر فداحة مما يتخيله صناع القرار في العواصم الكبرى. فالخيارات المفروضة بالقوة لم تنتج يومًا استقرارا، بل كانت على الدوام وصفة جاهزة لصراعات ممتدة الأجل.

ما يميز الموقف المصري في هذا المشهد المعقد ، ليس فقط رفضه لأي محاولات لإعادة تشكيل الخارطة السكانية لغزة بل أيضا إصراره على أن الحلول لا يمكن أن تأتي عبر القفز على ثوابت القضية الفلسطينية. لقد قدمت القاهرة نفسها كصوت العقل وسط ضجيج الحرب ، وأثبتت أن الدبلوماسية المصرية ليست مجرد وسيط محايد بل لاعب أساسي لديه رؤية متماسكة لما يجب أن يكون عليه مستقبل هذه القضية.

لكن في مقابل هذا الثبات ، تدرك مصر أيضا أن المعادلات الإقليمية ليست جامدة، وأن الأوضاع الراهنة تفرض تحديات غير مسبوقة ، سواء على مستوى توازنات القوى أو على صعيد التعاطي الدولي مع القضية الفلسطينية. ومع تصاعد وتيرة التصعيد ، بدا واضحا أن بعض الأطراف تحاول إعادة رسم ملامح المنطقة وفقا لحسابات ضيقة ، لا تأخذ في الاعتبار التبعات الاستراتيجية لمثل هذه المغامرات. وهنا كانت القاهرة حاضرة برسائلها الحاسمة: لا يمكن التعامل مع المنطقة وكأنها رقعة شطرنج تتحرك فيها القطع وفقا لرغبات القوى الكبرى ولا يمكن لأي طرف أن يتجاهل الحقائق الجيوسياسية التي ترسخت عبر عقود من الصراع والتفاوض.

وفي هذا السياق يأتي الموقف المصري ليس باعتباره مجرد رفض لفكرة التهجير ، وإنما كجزء من رؤية أوسع ترى أن استقرار المنطقة لا يمكن أن يتحقق إلا عبر احترام الحقوق التاريخية للشعوب ، وعدم السعي إلى فرض وقائع جديدة بالقوة. فكما تصدت مصر سابقا لمحاولات تصفية القضية الفلسطينية فإنها اليوم تؤكد من جديد أن أي تسوية يجب أن تكون عادلة ومستدامة وإلا فإنها ستبقى مجرد هدنة مؤقتة سرعان ما تنهار تحت وطأة الحقائق التاريخية والجغرافية.

وربما يكون هذا هو جوهر الرؤية المصرية التي ميزتها عبر عقود: التعامل مع المتغيرات بمرونة، لكن دون التفريط في الثوابت. فبينما تتغير المعادلات الإقليمية وتتبدل المواقف الدولية، تظل مصر ثابتة على مواقفها، تدير الصراع بحكمة، وتوازن بين ضرورة الحفاظ على استقرارها الداخلي، وبين دورها التاريخي كحاضنة لقضايا الأمة.

في النهاية لا يمكن قراءة الموقف المصري تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة بمعزل عن هذه الرؤية العميقة، التي لا تقتصر على البعد السياسي فقط ، بل تمتد لتشمل كافة الأبعاد الاستراتيجية. فبينما يتغير الفاعلون وتتبدل الأدوات، يبقى الثابت الوحيد هو أن مصر بما تملكه من تاريخ وخبرة وموقع ، ستظل الرقم الأصعب في أي معادلة تُرسم لمستقبل المنطقة.

موضوعات متعلقة