شحاته زكريا يكتب: السياسة بين المثال والواقع .. أين يقف رجل الدولة؟

في عالم السياسة تتأرجح الممارسات بين المثالية والمصالح البراجماتية ، وبين الالتزام بالمبادئ والانقياد وراء الغرائز. هذه المعادلة التي شكلت تاريخ الشعوب والدول تتجلى اليوم بوضوح غير مسبوق ، حيث تتراجع القيم أمام لغة المصالح العارية، ويتصدر المشهد رجال السياسة على حساب رجال الدولة.
رجل الدولة وفقا للفكر السياسي الراسخ ليس مجرد مسؤول يتقلد منصبا ، بل هو قائد يحمل على عاتقه مسؤولية الأمة بكل أبعادها. هو صاحب الرؤية التي تمتد لعقود لا لمنصب يدوم بضع سنوات. هو من يتخذ قرارات ليست بالضرورة شعبوية، لكنها ضرورية لمستقبل وطنه. إنه الشخص الذي يضع مصلحة بلاده فوق حساباته الشخصية ، ولا ينجرف خلف الخطابات العاطفية التي تثير الجماهير لحصد مكاسب مؤقتة.
على الطرف الآخر نجد رجل السياسة التقليدي الذي يجيد فن الخطابة، والمناورة وتحريك المشاعر ، لكنه يفتقر إلى البصيرة الاستراتيجية. همه الأول هو كسب التأييد حتى وإن كان ذلك على حساب المصلحة الحقيقية للأمة. يُجيد اللعب بالألفاظ وخلق الشعارات لكنه لا يستطيع تحمل تبعات قرار مصيري قد لا يكون محبوبا جماهيريا لكنه ضروري للمستقبل.
في الماضي كانت السياسة تُمارس تحت ستار المبادئ، حتى وإن كانت المصالح هي المحرك الأساسي. الدول الاستعمارية قدمت سياساتها التوسعية تحت غطاء "نشر الحضارة"، والمغامرات العسكرية كانت تُبرر بشعارات "تحقيق العدالة". أما اليوم فقد أزيلت الأقنعة وأصبحت المصالح تُساق بلا غطاء أخلاقي بل وأحيانا تنحدر إلى مستوى الغرائز البدائية التي تحركها الكراهية، الانتقام، والتدمير العبثي.
إن المتابع للأحداث العالمية اليوم يدرك أننا نشهد مرحلة غير مسبوقة من الانحدار السياسي، حيث لم يعد هناك حتى محاولة لتبرير الأفعال الوحشية أو الاعتداءات السافرة. تُشن الحروب بلا ادعاء لنشر الديمقراطية، تُفرض العقوبات بلا ذريعة لحماية حقوق الإنسان ، وتُرتكب المجازر دون حتى السعي لمنحها مبررا واهيا. لقد أصبح المشهد السياسي أكثر وحشية ، وأكثر صراحة في انفصاله عن أي مبادئ إنسانية.
لكن السؤال الحقيقي هو: هل يمكن استعادة التوازن؟ هل يمكن أن يعود رجل الدولة إلى مقدمة المشهد؟ أم أننا نسير في طريق اللاعودة حيث لا صوت يعلو فوق صوت المصلحة الضيقة والغرائز السياسية؟
ربما تكون الإجابة مرتبطة بمدى قدرة الشعوب على استعادة الوعي السياسي ، والتمييز بين رجل الدولة الحقيقي ورجل السياسة الباحث عن المجد الشخصي. فالتاريخ يثبت أن الأمم التي تنهض ، هي تلك التي تحكمها عقول ترى أبعد من اللحظة الراهنة، والتي يقودها رجال يفكرون في المستقبل، لا في نتائج الانتخابات القادمة.
السياسة في جوهرها ليست صراعا على السلطة فقط بل هي مسؤولية تجاه الحاضر والمستقبل. وإذا لم يعد رجل الدولة إلى المشهد فإننا قد نجد أنفسنا في عالم تحكمه المصالح العارية من أي قيم عالم تتراجع فيه السياسة لتصبح مجرد لعبة مصالح ويختفي فيه القادة الحقيقيون ليحل محلهم الساسة المهرة في التلاعب، لكن العاجزين عن القيادة الفعلية.