أيمن رفعت المحجوب يكتب: العقل برهان الحقيقة

الحقيقة هى وضع كل ظاهرة مادية كانت أو معنوية موضعها من النظام الكونى. وإذا كان العقل البشرى هو الوسيلة التى تضع بها الظواهر موضعها فلا بد له من طريقة يتبين بها أنه أصاب فى تحديد هذا الموضع. بعبارة أكثر وضوحا، لابد للعقل من أن يهتدى إلى برهان على الحقيقة.
وأنواع البراهين كثيرة ومختلفة، بل إن لكل مذهب من مذاهب الفكر طريقة إلى إثبات الصواب والبعد عن الخطأ وتختلف عن طريقة غيره من المذاهب الأخرى. أما البرهان فى مذهب "الخرافة العلمية" مثلاً، فقد أصبح ثابتاً واضحاً ومعروفاً، حيث أنه يقوم فى الأساس على: الاطراد" وعلى أن العلاقات بين موضوعات البحث العلمى يمكن إخضاعها لنظام رياضى ثابت المعالم مهما يمكن تعقيده.
ولدينا من العلوم ما يثبت أن نظام الكون والعقل كلا منهما نظام رياضى ثابت وواضح المعالم. لهذا أصبح البرهان فى هذا المذهب، أن كل ما يطابق المنطق هو البرهان الذى يطمئن إليه العقل البشرى اطمئنانا تاما.
و لكن تظل أكثر النظريات العملية فروضاً حتى يستطيع حسابها رياضيا، عندها فقط يتبين صدقها وتثبت بذلك الحقيقة. إذا كان ما سبق ذكره هو آخر تطورات البراهين فى أنواع التفكير على إثبات الحقائق الكونية والعلمية، فلم يكن ليتضح ذلك فى أول عهود التفكير العلمى الذى وصف بالخرافات.
وكان البدائيون يظنون أن توافق أمرين زمانا أو مكانا برهان كاف على نظرية السببية، بل ومنهم من كان يتجاهل حتى ذلك الربط ويعلل الأمور بأسباب لاحقة لها زماناً أو بعيدة عنها مكاناً، ثم كثر بعد ذلك علم البشرية بالظواهر وعلاقاتها ومن شأن هذه الكثرة أن جعلت الربط بين الظواهر أقرب إلى الاطراد وأشبه بالقوانين العامة، حتى أصبحت العلاقات منتظمة وثابتة وخاضعة للتجربة والحساب الرياضى الدقيق، وكان ذلك آخر الخرافات وأول العلوم ولذلك كان التطور العلمى الذى وصلنا إليه اليوم يجزم بأنه إذا أمكن الكشف عن علاقة ثابتة رياضية بين الظواهر، كان هذا برهاناً مقبولا على الحقيقة فى هذا النوع من ضروب التفكير الإنسانى.
يتضح مما سبق ان وسائل البرهان على الحقيقة من خلال مذهب التفكير الخرافى والذى تحوّل إلى علوم من خلال الإثبات الرياضى للحقائق الكونية والعلمية الثابتة.
ونكمل هذا البرهان من خلال ضرب أخر من ضروب التفكير الإنسانى وهو "مذهب التفكير الفلسفى الدينى "فلم يهتد الانسان بعد إلى برهان فيه مقطوع بصحته كما هو الحال
فى العلوم البحتة.
ذلك أن موضوعاته لا تخضع للتجربة والحساب ولابد لها من نوع آخر من البرهان، أما التفكير الدينى فالبرهان عنده "برهان نفسى"، ومقاييس الحق فيه الإلهام والشعور النفسي أن ما يعتقد فيه المرء هو الصواب.
وليس الخطأ أن تتخذ النفس مقياساً للحق فى أمور الإيمان، ولكن بعض الفلاسفة لم يقنعوا بهذا البرهان على الحقيقة الدينية، فهم يقولون أن الشعور النفسى يختلف، وأن أبرز هذا الشعور يقسم على صور مختلفة، ولا يدرى أحد أى هذه الصور يطابق الحقيقة.
وهم يرون أيضا أن هذا النوع من البرهان يجعل الحقيقة فى أمور الإيمان حقيقة ممكنة ليس إلا! وعندهم الشعور النفسى لا يمكن أن يكون وسيلة إثبات معقولة ومقبولة للعقل، وأنه لا مفر لنا من برهان من طراز آخر عندما نتناول الإنسانيات بالبحث.
وهذا النوع من التفكير العلمى كما ذكرنا لا يقنع بالبرهان المنطقى المجرد، كما لم يقنع التفكير الفلسفى بالبرهان النفسى المجرد أيضاً. وإذا كان الفلاسفة يميلون إلى الغض من قدر البرهان النفسى فى إثبات الحقائق الدينية لأنها تقوم على المنطق، فإن العلماء يميلون إلى الغض من قدر التفكير الفلسفى لأنه يقوم على المنطق وحده دون الواقع العملى. ويجب أن نفهم أن الفلسفة لا تنقص من قدر التفكير الدينى، فالواقع أن التفكير فيهما من طبيعة واحدة، كلاهما غائى شامل.
والحق أن الدين فى هذا أقوى من الفلسفة، فهو أكثر منها شمولاً، وأقدر على تناول ما نجهل حقيقته، والدين يملئ الفراغ النفسى بما لا تسطيعه الفلسفة، وتجسيم المعنويات عن طريق الدين أكمل وأتم، بل إن الفلسفة لا تكاد تبلغ من هذا شيئاً. وفى النهاية فالدين والعلم هما طرفا المعرفة.
والمذاهب الأخرى كلها إن لم تكن اجتهادات حميدة فهى ما زالت كلها حائرة بين الطرفين.