محمد دياب يكتب: يحيى السنوار.. شهادة من قلب المعركة وخلود في ضمير الأمة

في صفحات التاريخ التي لا تُمحى تُسطّر أسماء قليلة من الرجال الذين اختاروا أن يعيشوا لأجل لحظة واحدة تُلخّص كل مسارات حياتهم لحظة مواجهة المصير بشجاعة وإيمان لا يلين. يحيى السنوار قائد المقاومة وأحد رموز النضال الفلسطيني لم يكن مجرد قائد عسكري يتنقل بين الميدان والسلاح بل كان رجلاً يختزن بين طيات روحه إيماناً عميقاً بالحرية والكرامة مُجسداً بأفعاله وتجربته الحياتية المعنى الأسمى للشهادة
لقد عاش السنوار يتنفس قضيته منذ نعومة أظفاره حتى لحظاته الأخيرة في ميدان المعركة. لكن ما يميز حياة هذا الرجل ليس مجرد نضاله العسكريبل قناعته الراسخة بأن النصر يبدأ من استشهاد القادة في قلب الصفوف الأمامية حيث لا مكان للهروب أو الاختباء؛ كان الموت بالنسبة له ضريبة مستحقة لحياة كُرّست دفاعاً عن الأرض والشعب وكان يتوق إلى تلك اللحظة التي يسقط فيها وهو متمسك بسلاحه مضرجاً بدمائه على أرض المعركة
في معركة رفح لم يكن السنوار مختبئاً خلف جدران الأنفاق كما زعم الأعداء. لم يكن يختبئ في الأقبية ولم يتخذ الأسرى دروعاً بشرية كما افتروا عليه. الحقيقة كما أكدتها لحظات استشهاده كانت أبعد بكثير من تلك الادعاءات. لقد كان يقود المعركة من الخطوط الأمامية مُحاطاً بجنوده متحدياً الرصاص والدبابات. لم يكن الرجل يدير معركته من بعيد بل كان في مُقدمة الصفوف يتلقى الرصاص في صدره ورأسه شهيداً كما تمنى ورمزاً للثبات والعزة حتى آخر لحظة
السنوار الذي طالما كان هاجساً للاحتلال لم يمنحهم شرف الانتصار عليه. فقد ظلوا لعام كامل يلاحقونه بين البيوت والصخور والرمال يبحثون عنه في الأنفاق والملاذات الآمنة بينما كان هو في الحقيقة أقرب مما تصوروا. كان في قلب الميدان قريباً جداً من أعدائه يتقدم نحو الشهادة بخطى ثابتة غير مدبر محتضناً سلاحه وموجهاً معركته بعين ثاقبة. لقد أبى أن يكون رجلاً يُهزم في الظل واختار أن يكون شهيداً في النور أمام أعين جنوده وأعدائه على حد سواء
وعندما أعلن العدو عن مقتله لم يكن مجرد خبر عابر. لقد اعترفوا ولو على مضض بأنهم فقدوا رجلاً قادراً على تحديهم رجل لم يختبئ كما زعموا بل واجههم في الصفوف الأمامية. خرجوا هم أنفسهم ليعترفوا بأن السنوار مات كما عاش مرفوع الرأس شامخاً في معركة لم تمنحه إلا الشرف والكرامة
في لحظة استشهاده لم يكن السنوار فقط قائداً يقاتل على الأرض. كان رمزاً للمعاني الأعمق التي تُجسدها الشهادة. عاش الرجل ليُعلّم الأجيال أن الحياة الحقيقية ليست في البقاء على قيدها بل في التضحية من أجل ما هو أسمى منها. الشهادة ليست موتاً بل خلود وشرف لا يضاهيه شرف
لقد رحل السنوار عن هذا العالم لكنه ترك وراءه إرثاً عظيماً. إرثاً من الشجاعة والبسالة التي ستظل منارة لكل من يسير على درب الحرية. نرحل نحن ويبقى هو في ذاكرة الأمة خالداً مع الشهداء الذين رسموا بدمائهم الطريق نحو الكرامة
نسأل الله أن يتقبله في عليين وأن يجعل من شهادته نوراً يهتدي به الأحرار في كل زمان ومكان