الطريق
الأحد 7 يوليو 2024 08:41 صـ 1 محرّم 1446 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

أبيض عالي والثمن غالي.. إدريس أفندي فرنسي وصف القاهرة وحال الباعة زمان

الباعة زمان
الباعة زمان

كيف كان حال جدودنا المصريون قديما، وتحديدا البائعين، هل تغيرت طباعهم وعباراتهم المصاحبة لهم إثناء تجوالهم في الشوارع والحواري، أم ظلت كماهي، إدريس أفندي مستشرق فرنسي، يكاد يكون مجهولا من الكثيرين، الذي ولد في عام 1807، في مقاطعة الفلاندر بفرنسا، ولم يسمه أبوه إدريس إذ كان من أسرة إنجليزية الأصل هاجرت إلي فرنسا فرارا من جور الملك "شارل الثاني، بل عرف باسم "بريس دافين".

وإدريس أفندي له أبحاث مهمة جدا في التاريخ المصري القديم وفي تاريخ العمارة العربية، وعاش إدريس أفندي سبعة عشر عاما علي ضفاف النيل، وقد سافر إلي باريس أثناء حكم عباس وعاد بعد تولي سعيد حكم مصر، وترك بريس دافين، اثنا عشر مجلدا خلفها تتناول دراسة مصر من مختلف النواحي، وقد عاصر وعاشر محمد علي إلي إسماعيل ووصف إساليب حكمهم وخفايا حياتهم وصف شاهد عيان.

القاهرة في كتاب إدريس أفندي

كما وصف إدريس أفندي القاهرة قائلا: لا أعرف مدينة تتقابل فيها الأضواء تقابلا أروح منه في القاهرة، فإن السائر في الشوارع الضيافة بتلك المدينة التي تنتشر فيها رائحة القرون الوسطي، بروعه في كل لحظة مشهد الترف المسرف إلي جانب الفقر المدقع، وتتصادم في القاهرة بالبهجة والآلام دائما، فكثيرا ما رأيت موكب عروس تتقدمه جوقة الموسيقيين يلتقي بموكب جنائزي، دون أن يقطع الموسيقيون عزفهم، ودون أن يقطع المشعوذون لعبهم بل ورأيت في كل مرة تقريبا أعضاء الموكبين يتبادلون الحديث في ألفة الإخوة والأخوات.

ويسترسل إدريس أفندي في مذكراته عن المصريون، قائلا: ولا يقل عن ذلك روعة ما تلاحظ من تباين بين الأجناس التي تضطرب في تلك الشوارع المزدحمة، فهناك يري المرء جميع أركان الأرض ممثلة الأبيض ذا الشعر الأشقر والعينين الزرقاوين، والزنجي المنخفض الجبهة الغليط الشفتين، والعربي والتركي والشركسي والهندي والحبشي، كل أولئك يختلطون ويتزاكمون بالعناكب، ويتكلمون لغات برج بابل.

مناظر من أسواق القاهرة

وتحت عنوان مناظر من الأسواق يصف إدريس أفندي حال المصريون قديما قائلا: في كثير من الأحيان، عندما أخرج لقضاء أموري، أدخل قهوة وهناك اتسلي بتأمل المشاهد المتنوعة التي تجري أمام أنظاري، أحب أن تحيطني التموجات الخفيفة التي ينشرها تعباك نارجيلتي أو غليوني الطويل ذي المبسم العنبري، والدخان هنا ولا يثير سيلان اللعاب المنفر الذي يجعله كريها في أوربا، بل يجد المرء لهذا الدخان، وقد أصبح رقيقا جدا لمسيره في أنبوبة طويلة، أو لأنه قد تنفي في الماء، طعما يبحث عن دون جدوي في كلمكان أخر، وإنه ليبقيه وقتا طويلا في فمه ثم يطرده قليلا قليلا وهو يتذوق عذوبة تبغ صور أو اللاذقية أو هذه الأنواع المكيفة الأخري التي تتفنن فيها الشعوب الشرقية.

ويصل إدريس أفندي في وصف حال المصريون قديما إلي مرور قوافل جرار من الجمال المحملة تضطر المارة إلي أن يقفوا ليكي يفسحوا لها مكانا، وهي بمشيتها الكسلي وأقدامها العريضة ورقابها التي تنحني تارة نحو الأرض وترتفع تارة أخري، وهاهو الكاتب القبطي المتواضع تحت عمامة سوداء كثيرة الثنيات، والدواة مغمدة في طيات جزامه كالخنجر، يمر هادئا علي ظهر حماره قاصدا ديوانه، والألباني يختال في مشيته، مرسلا نظرات ماكرة شرسة وهو يدور محتالا في هذه الأسواق المديدة، بالإضافة إلي تنوع مشهد النسوة محجبات الوجوه، مختفيات في أردية فضفاضة، يحملن علي أكتافهن أطفالا تكسوهم التمائم، أو علي رؤسهم إناء جميلا، أما نسوة الطبقة الغنية، فتراهم محجبات من الرأس إلي القدم بأردية طويلة من الحرير الأسود، وقد ركبن حميرا أسرجت بسجاجيد نفيسة يرعاها السواس من كل جانب، ويتقدمها الخصيان، ذاهبات إلي الحمام أو إلي إداء زيارة.

والدرويش المعروف بمجونه، وقد كست رأسه طاقية من اللباد الرمادي، ونزل شعر حلقات علي قفاه، يقبل عليك ليضايقك ببركاته، والمملوك المتباهي بعبوديته، الأبيض البشرة، وإلي أحد جنبيه سيف مقوس وإلي جانبه الأخر حمالة الرصاص، يطوف في خمول بممرات السوق.

ويصف إدريس أفندي طريقة السلام بين العرب بعضهم البعض، قائلا: إذا تقابل عربيان كانا لم يلتقيا منذ أمد بعيد، أخذ كل منهما يد صاحبه ست مرات أو ثماني، وقبًل كل منهما يده ثم وضعها علي قلبه مرددا، كيف حالك؟.

وهناك الأولياء نوع من المجانين مباح لهم كل شيء ويبدي نحوهم السذج احتراما دينيا، إنهم أشخاص يتكلفون التقوي، رجال قديسون نصف عراة، يتركون مكشوفا ما يدفعنا في العادة شهوة مفهومة إلي أن نستره، تجدهم جالسين في الأركان أو يتفلون في الشمس، وكثيرا ما رأيت نسوة تقيات متدينات يقتربن من هؤلاء الأولياء البرص ويقبلن أيديهم النفرة.

مناداة الباعة في القاهرة

لمعظم باعة القاهرة المتجولين، ولاسيما بائعي الفاكهة وغيرهم لهم طريقة غريبة في المناداة، فيها صورة شعرية، وجذابة، وقد تحمل معني مزدوجا، وفي أغلب الأحيان يتعذر عليك أن تعرف ماذا يبيعون وراء تلك الهتافات أو تلك الإعلانات.

تنادي بائعة اللبن قائلة: يا صباح اللبن، أو صباحك لبن، أي ليكن صباحك أبيض كاللبن، وكثيرا ما يعلن عن قصب السكر في الشوارع بنداء، أبيض عالي والثمن غالي، وهي عبارة يفهم السامع أنها عود القصب الذي يغلو ثمنه كلما كان طويلا أبيض اللون، وأنها تعني من ناحية أخري نهد أو عانة البائعة التي تكون في هذه المناسبة فتاة دائما.

ويعرضون قصب السكر أيضا للبيع منادين، "يا اللي يزور حماته بالنبوت يا أبيض، فالمصريون يزعمون أن الحماة تسدي لابنتها دائما شر النصائح ضد زوجها، وهي لهذا السبب خليقة بأن يزورها ختنها حاملا عصا في يده.

وتصيح بائعة البرتقال: يا بردقان يا عسل، أو كريم عليم يا بردقال، داعية الله بصفتين من صفاته راجية أن يسهل البيع ويروجه.

ويصيح بائع الليمون الحلو، عسل يا طرنج عسل، دوا للقلب يا طرنج عسل، فهم يزعمون أن هذه الثمرة طبية للمعدة، ويخلط البائع هنا بين المعدة والقلب.

كما يسترسل إدريس أفندي في وصف حالة البائعين المصريون قديما، عن بائعات الفاكهة عندما يعلن ويقومون بإضافة اسم المكان إلي اسم الثمرة، فوة الرمان، أي أن ذلك الرمان من غرس "فوة"، وهي موضع مشهور بجودة هذه الفاكهة.

ولبائعات الورد مناديات شعرية، فهن يقلن، الورد شوك من عرق النبي فتح، أي أن الوردة كانت شوكة ثم ازدهرت إذ سقطت عليها قطرة من عرق النبي، وهن يقلن أيضا: خلاقه عظيم، إشارة إلي صانع تلك المعجزة.

وتباع باقات الياسمين بمناداة: روايح الياسمين عجب، وتقول بائعات الحنة، تمرحنة من روائح الجنة، والجائلات لبيع الأقمشة يرسلن أحيانا صيحات غريبة للانتباه، فالإعلان عن نوع نسيج القطن مصنوع بالة يجرها الثور ينادين، شغل الطور يابنات، وقطع الحلوي الصغيرة التي تسمي حلاوة، وهي تتركب من العسل المطهو مخلوطا بعقاقير أخري، تجول بنداء، بمسمار يا حلاوة أي أن ثمن القطعة مسمار، ويجول الترمس في المدينة بالإعلانات الآتية، مدد انبابي مدد، أو ترمس انبابة يغلب اللوز، أو يا أحلي بوح البحر، وثمة نداء أخر أصعب فهما للأوربي مما تقدم إلا وهو يامسلي الغلبان يالب، فهكذا يعلنون أيضا منادين اللب المحمص،

موضوعات متعلقة