الطريق
الجمعة 20 سبتمبر 2024 04:32 مـ 17 ربيع أول 1446 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

ها الصيصان.. شو حلوين!

بوستر فيلم إلى سما
بوستر فيلم إلى سما

اليوم سأحدثكم عن الطفولة، عن الحرب، عن حلب، وعن "سما".

أشعر دائما بانتمائي بشكل أو بآخر إلى سوريا. شيء ما في جيناتي أو ربما وجداني الجمعي جعلني أميل لمصادقتهم طوال طفولتي التي قضيتها في المملكة العربية السعودية. في ما بعد أدركت أن الرابط بيننا في التاريخ -خلاف عروبة الدم- هو الحرب.

قبل ولادتي بثمانية وعشرين عامًا بدأت الحكاية. تحكيها مصر لأجيالها عبر فقرة واحدة في منهج التاريخ للصف الثالث الإعدادي تقول: "تمت الوحدة ما بين مصر وسوريا عام 1958 لتكون الجمهورية العربية المتحدة برئاسة جمال عبد الناصر نواة لحلم الوحدة العربية، والتي كانت واحدة من أهم إنجازات ثورة 23 يوليو على الصعيد العربي". الآن أدرك أن ذلك حدث بعد العدوان الثلاثي على مصر بعامين. ليتسبب بعدها في خسارة سوريا للجولان بعد أن اعتبرتها إسرائيل خطرًا دائمًا إذا ما اتحدت مع مصر من جديد في ما عرف بنكبة 1967 والتي أصابت مصر في مقتل أيضًا. ليجتمع مصيرهما مرة أخرى في حرب أكتوبر 1973 التي كانت على الجبهتين مع اختلاف النتائج والتبعات.

وبحكم دراستي لم أعرف كل هذا، فقط أحببت صديقي "ثائر" وعائلته، والذي كان يأتي كل نهاية إجازة محمّلًا بهدايا قوامها صابون الغار الفيروزي اللون وزيت الزيتون، وكثير من الحكايات عن مدينته التي يحبها.. عن حلب.

تطورت معرفتي بحلب مع جارة جديدة في نفس المدينة بعد أن غيرنا سكننا. تعلمت مع ابنتهم "وعد" الحب الأول. عيونها الخضراء وبشرتها البيضاء التي تشبه قلبها كانا محرابًا تعبَّد في جماله قلب طفولتي الصغير، لتحيطنا حكايات أمها الدافئة عن صلاتهم العيد في جامع حلب الكبير أحد معالم التراث العالمي، وعن مهرجان القطن الذي يقام في ساحة سعد الله الجابري في قلب المدينة. حفظت شكل بواباتها التاريخية من الصور. وأدمنت الحلوى التي كانت تميز بيتهم القادمة من أسواق حلب الشرقية أطول أسواق أثرية مسقوفة في العالم بطول 15 كيلومترًا.

وحين عملت في دبي في عام 2013 تقاطع طريقي من جديد معها مع صديق سوري كنت أشاركه الغرفة. تقارب عمرنا وفكرنا جعل الحكايات تنطلق. حكيت له عن ميدان التحرير وعن ثورة يناير التي كانت قبلها بعامين. وحدثني هو عن حلب والثورة السورية التي انطلقت بعد ثورتنا بشهور قليلة وتحديدًا في مارس عام 2011. وكيف شارك فيها بقلبه وعقله قبل تهجيرهم، عن المستشفيات التي قُصفت والمدينة التي ماتت.

كان يحكي لي خطته التي يرسمها للهجرة إلى ألمانيا. أذكر تفاصيل مكالمة لسمسار ما اتفق معه فيها على أن يلتقطه من مدينة "مرسين" التركية لينقله إلى اليونان في قارب، حيث التسعيرة هنا على "النفر" حسب حجمه! ومكالمة ثانية لشخص قال إنه يرتب له مع مجموعات في مواعيد مختلفة سيعبر معها الحدود إلى المجر وسيتابع معها الطريق إلى النمسا.

شاهدته يضع على خريطة علامات إكس في أماكن بعينها باليونان ومقدونيا وصربيا. وخطوطًا محاذية لشبكات السكك الحديدية عليه أن يمشي من خلالها دون أن يمسكه أحد. وحين مازحته قائلًا إن تلك الخريطة تبدو كأنه سيسرق بنكًا ضحك كثيرًا، ثم رد بصوت متهدج إنها خريطة لسرقة الحياة. اشتريت معه سترة نجاة من براند شهير، وهاتفًا تعيش بطاريته طويلا. وكشافًا وملابس ثقيلة. ساعدته على تحضير الحقيبة قبل أن أودعه في طريقه إلى تركيا دون أن أعرف مصيره حتى الآن.

لم أحاول أن أبحث عن الفظائع التي حكاها لي. كنت جبانًا وربما محبطًا. لا أدري عما أبحث؟ اختلف التصنيف ما بين ثورة سورية في بعض المواقع، وحركة احتجاجات وحرب أهلية في مواقع أخرى، بينما يتعامل معها الإعلام السوري بوصفهم متمردين وإرهابيين. هؤلاء أصدقائي. كل هذه الذكريات انطلقت دون استئذان بسبب طفلة صغيرة وأمها وأبيها. هذه الطفلة هي "سما".

وقع في يدي فيلم "إلى سما" بالصدفة.

شعرت أنه يناديني، يحمل كثيرًا من الصدف الشخصية.

فيلم وثائقي سوري بريطاني بطلته ومخرجته بالاشتراك مع البريطاني إدوارد واتس الصحفية والناشطة "وعد الخطيب" والتي تحمل نفس لون عيون وبشرة ومدينة وجنسية واسم حبي الأول. بقليل من البحث علمت أنه اسم مستعار لحمايتها وأسرتها من بطش النظام السوري.

فيلم شديد القسوة وشديد الإنسانية، صدر في عام 2019، ودخل التاريخ بقوة من خلال ترشحه لـ39 جائزة منذ صدوره، أهمها ترشحه في أربع فئات في جوائز بافتا ليحصد الجائزة كأفضل فيلم وثائقي، وليصبح الأكثر ترشيحًا على الإطلاق، كما رُشّح لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي في حفل توزيع جوائز الأوسكار الـ 92. وحصل على جائزة الجمهور كأفضل فيلم وثائقي في مهرجان كان السينمائي في عام 2019.

كما فاز الفيلم بجوائز متعددة ضمن جوائز الفيلم البريطاني المستقل في ديسمبر 2019 بما في ذلك: أفضل فيلم مستقل، وأفضل فيلم وثائقي، وأفضل مخرج وأفضل تحرير. بينما حصلت تغطية وعد للمعركة من أجل حلب على جائزة إيمي الدولية للشؤون الجارية والأخبار للقناة الرابعة البريطانية. وصنفت ضمن أهم 100 امرأة مؤثرة حول العالم من بي بي سي عام 2020.

الفيلم يشبه كل ما حدثني به صديقي في دبي. حالة من "الفضفضة" الموثقة على شكل رسالة توجهها الأم وعد، إلى ابنتها "سما" على مدى خمسة أعوام عاشتها منذ جاءت لتدرس في حلب مع بداية الثورة.

تحكي بطلة الفيلم حيثيات قرارها بحمل الكاميرا لتصوير ما يحدث. وكيف تقاطع طريقها مع الدكتور حمزة الطبيب الشاب الذي صعد نجمه مع الوقت والظروف والمجازر تدريجيًا، حتى أصبح رئيس آخر مستشفى من أصل تسعة مستشفيات دُمّرت على رأس من فيهم. ليقررا الزواج وخوض طريق الحرية الطويل معًا، كل في موقعه، متخذين من المستشفى مقرا للإقامة. حتى رزقهما الله بابنتهما سما. لتتوالى الأحداث حتى حصار حلب الشهير.

لكن الخط الدرامي الخاص بالأطفال كان الأكثر ألمًا. صوت القصف مع مشاهد ضحكات الأطفال ولقطات سما جعلتني أصاب بحالة من الجمود. لم أعش حروبًا بشكل مباشر في حياتي غير حروب لقمة العيش، أو معارك الحرية مثل موقعة الجمل في ميدان التحرير -كما يطلق عليها- والتي تشبه لعب الأطفال مقابل ما شاهدته.

لفت نظري تلك الكادرات التي تناولت تعامل الأطفال مع القصف. ثبات انفعالي عجيب ثم دموع لا تضاهي المواقف.

مثلًا مشهد الطفلين اللذين حملا أخاهما الصغير للمستشفى بعد غارة روسية سورية على مدينة سورية أيضًا، وهما يشاهدان لحظات محاولة الإنعاش الأخيرة قبل أن يستسلم الأطباء، وتأتي الأم باحثة عن الجميع. تحمل ابنها ويتبعها الطفلان دون أن تصرخ. فقط تحمله بإصرار للخارج وتردد: "مات الغالي".

مشاهد حيرة الأم وأسئلتها ومخاوفها التي تحكيها كانت مميزة أيضًا. في كادر واحد تلتقط صورة لسما بنت المشفى –كما تصفها أمها- وهي تتناول رضعتها أمام جثة طفل آخر يكبرها ببضعة أعوام يغطيها أبوها الطبيب. هنا الخط الفاصل بين الموت والحياة، بين البراءة والوحشية، بين الخوف والحيرة وكثير من العجز حين تقول الأم لسما: "خايفة أموت وأتركك".

لم ينس الفيلم أن يتحدث عن الحياة. كيف كان الأطفال يلعبون بدهان الباصات المحترقة. آراؤهم عن الحرب والوطن والحياة. قصة ومشاهد السيدة التي أصيبت في القصف وهي حامل، ليضطر الأطباء لإجراء عملية جراحية قيصرية سريعة، محاولات الإنعاش جعلت قلبي يتوقف متعلقًا بتلك الأسرة. في النهاية نجا الاثنان في ما يشبه المعجزة. ودون أن يدريا منحا الحياة لطاقم الأطباء الذين تظهر لقطات أخرى محاولاتهم للتماسك.

كثير من المشاعر انتزعت تصفيقي بعد انتهاء الفيلم تمامًا كما حدث خلال حفل توزيع جوائز الأكاديمية البريطانية السينمائية، إذ حصل على جلسة تصفيقٍ حاد لمدة ست دقائق!

دفعني الفيلم لأبحث عن صديقي "ثائر" وعن "وعد" التي أحببتها على الإنترنت. خلال رحلة البحث عرفت كثيرًا عن حلب الحديثة. آخر تقييم لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو" لحجم الأضرار في المواقع الأثرية في مدينة حلب القديمة بشكل خاص والمدينة بشكل عام بيّن أن ثلث المدينة دُمّر بالكامل، وأن 60% من مدينة حلب القديمة قد تضرر بشكل كبير لا يصلح للحياة. دمر تفجير انتحاري ساحة سعد الله الجابري في 2013، ولم يختلف مصير جامع حلب الكبير وأسواقها الشهيرة كثيرًا!

أما عن الطفولة فقد قالت الأمم المتحدة إن عدد الأطفال السوريين الذين قتلوا أو أصيبوا خلال السنوات السبع الماضية نحو سبعة آلاف طفل، بينما قفز العدد في التقارير غير الرسمية إلى ما يزيد على 20 ألفًا.

مقابل تلك الأرقام كان أقسى رد فعل حدث هو تصريح ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة لشؤون الأطفال والصراعات المسلحة، فيرجينيا غامبا، أمام مجلس الأمن في يوليو 2018، حين عبرت عن "عميق انزعاجها من قصص الأطفال الذين ولدوا ونشأوا خلال هذه الأحداث كونهم لم يعيشوا السلام في بلادهم"!

بينما قالت هناء سنجر ممثلة اليونيسف التي ساعدت كثيرًا على إجلاء الأطفال في أثناء إخلاء المدينة واصفة الوضع "إنه لأمرٌ محزن جدًا أن ترى الأطفال منفصلين عن ذويهم الذين يحبونهم في أثناء فرارهم من الخطر المباشر المُحدق بهم وسط حالة من الفوضى والارتباك".

الخبر الجيد أن سما الآن تعيش بعيدا عن الحروب في بريطانيا بعدما حصلت هي ووالدها ووالدتها "وعد" على اللجوء السياسي منذ عام 2016. والخبر السيئ أنني لم أستطع معرفة مصير ثائر ووعد.

في الليل لم أستطع النوم. هاجمتني أوجاع الأطفال. لكنني بدأت في الهدوء بعد أن نمت في وضعية الجنين، وأنا أغني أغنية سما المفضلة التي كانت تغنيها لها أمها:

ها الصيصان، شو حلوين

عم بيدوروا حول أمهن مبسوطين

ما بيخافوا.. لالا.. شو ما شافوا.. لالا

أمهن حدهن وهن حدها فرحانين..

بتطعميهن، وبتسقيهن..

وبتحميهن تحت جناحها دفيانين..

شربوا المي.. لالا. قالوا خي.. لالا

رفعوا راسهن شكروا ربهن ممنونين..

كلمات بسيطة تصف طفولة تاهت وسط ألعاب الشجب والإدانة والكر والفر واللون الأحمر الغامق في قلب حلب رحمة الله عليها.