الطريق
الخميس 9 مايو 2024 10:57 صـ 1 ذو القعدة 1445 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

لغتنا العربية وعاء الفكر

لا أتصور لأمة من ثورة فكرية كاسحة للرواسب، إلا أن تكون بدايتها نظرة عميقة عريضة تراجع بها اللغة وطرائق استخدمها لأن اللغة وعاء الفكر، ومحال أن يتغير هذا إلا بتغير تلك.

والعالم الذي نعيشه اليوم تسوده روح علمانية واقعية ، ينشغل الناس فيه بالعلوم الطبيعية أكثر من العلوم السابقة مثل الفقه والشريعة والشعر والنثر... ألخ.

فعندئذ كذلك يجب أن ينعكس ذلك على اللغة، فترى أصحابها يتخذون منها أداة ترمز إلي الواقع المحسوس، أكثر مما يتخذونها عدسات ينفذون منها إلي اللانهائية والخلود، وهذا الانتقال يتطلب تغيير الأداة أي الاتجاه إلي لغة الإعلام الواقعية العلمية محددة المعنى.

وقبل أن نبدأ الحديث عن أنفسنا، أود أن أنقل لمحة عن النشاط الفكري الذي قد بدأ بعد أربعة أعوام من قيام الثورة الفرنسية وقدمه 'المعهد القومي للعلوم'،
فقد قسم المعهد العلوم أقساماً ثلاث، وهي:
قسم العلوم الطبيعية، وقسم لعلوم الأخلاق والسياسة، وقسم ثالث للفنون الجميلة بما فيها الأدب.

وما يهمنا هنا هو "القسم الثاني"، قسم العلوم الأخلاقية والسياسية.

فقد فرعوه إلي 6 فرو ع، أخص بالنظر في تحليل فرع
منها هو الإحساسات والأفكار، لأنه هو الفرع الذي عنى بتحليل المعرفة الإنسانية تحليلاً يبين وسائلها ومداها حدودها، وهنا نأتي إلى البحث في اللغة من حيث الوسيلة التي لا وسيلة سواها لنشأة المعرفة الإنسانية وتكوينها وتطويرها.

وهو ما يثبت أن اللغة ليست لمجرد التعبير عن أفكار تكونت، بل هي جزء لا يتجزأ من عملية التفكير نفسها ، واللغة لكي نحللها تحليلاً دقيقاً يجب أن نساير رموزها، فكلما وقفنا عند جزء من مشهد ما كانت عنه لفظة تميزه كقولنا
"وادي أو بركان" أو غير ذلك.

فبهذا وحده يمكن بعد ذلك أن يصور الرائي لغيره ما قد رآه، وبغيره تعود الأجزاء فيتداخل بعضها في بعض بغير تمييز.

ومعني ذلك ألا معرفة بغير تحليل، ولا تحليل بغير رموز، أي بغير ألفاظ، وبعدها تتطور هذه الألفاظ معني من إشارتها إلي الفرد الجزئي، إلي إشاراتها إلي الكلي الذي يطلق علي مجموعة متجانسة من الأفراد.

وعليه نستنتج من ذلك أن تطوير العلوم مرهون بتطوير اللغة، وهي نتيجة لها من الأهمية والخطورة ما لا يحتاج منا إلي بيان لأن في هذه الحالة يصبح محالاً أن يتغير للناس فكر دون أن تتغير اللغة في طريقة استخدامها.

والآن فلنصرف الحديث إلي أنفسنا ، وأود أن الفت النظر إلي أننا حين نربط الفكر باللغة، فلسنا نقصد أن كل نطق بألفاظ يكون فكراً، بل لا بد من شروط ينبغي لها أن تتوافر في المنطوق ليكون ذا علاقة بما نسميه فكراً.

فهناك فرق بين "القول والكلام"، فالأول هو ما تتحرك به الشفتان، والثاني هو عندما يكتمل اللفظ حتي بات مستقلا بنفسه، مفيداً معناه، "فلئن كان كل الكلام قولاً "، "فليس كل قول كلاماً".

وإني لأتفق مع 'جاك بيرك' في كتابه عن العرب، إن اللغة العربية كما نراها في تراثنا الأدبي، توشك ألا تنتمي إلي دنيا الناس، فعلاقتنا محدودة جدا بمجري الحياة العملية وعليه اتجه المتكلمون بالعربية لخلق لغة عامية إلي جانب الفصحي يباشرون بها شئون حياتهم اليومية، حتى أن لغة الصحافة التي يطلق عليها فصحي اقتربت من العامية لتنجح، وليست هي الفصحي التي تراها في التراث الأدبي.

صحيح أن "الفصحي" في تراثنا الأدبي كانت مجالاً للفن يهوم في السماء وكان الكتاب يتولد منه تولداً يراعي فيه الظرف أكثر مما يراعي منطق التسلسل الفكري ، فالفجوة فسيحة بين دنيانا الفكرية وبين خبراتنا الشعورية، فلغة الكتابة عندنا مجموعة نغمية تقصد أجراسها إلي الآذان ولا تقصد إلي العقول أو القلوب.

فاللغة عندنا نغم يطير بنا عن أرض الواقع ويصعد بنا إلي اللانهائي المطلق، إن ذلك الضرب من الكتابة يتفق مع مزاج من لم يرد أن يعمل شيئاً، لكنه ضرب من الكتابة لا يصلح أداة في عصرنا تصل بين الكتاب وقارئ فيما يراد عمله بالنسبة إلي أوضاع الحياة اليومية الجارية.

وإنه لا يغيب عني أن نهضتنا الحضارية قد صحبتها بالضرورة نهضة في مجال اللغة، لكنني ألاحظ أن النهضة اللغوية قد أخذت مجريين مختلفين، أما أحدهما فطريق سلكه فريق
من الناهضين أرادوا للغة أن تنافس العامية في وسيلة أدائها أمثال 'نجيب محفوظ وأحمد بهاء الدين وزكي نجيب محمود'.

وأما الطريق الآخر فهو الذي سلكه فريق ظن أن النهوض باللغة إنما يكون بإحياء القديم وكان الله يحب المحسنين.

وإنني لأتمني أن تتطور اللغة بحيث تحقق شرطين:
أن تحافظ علي عبقريتها الأدبية أولاً، وأن تكون أداة للتوصيل لا مجرد وسيلة لترنم المترنمين ثانياً.

فبغير هذه الثورة في استخدامنا للغة، فلا رجاء في أن تحقق لنا الوسيلة الأولية التي ندخل بها مع سائر الناس، عصر التفكير العلمي الذي يحل كل المشكلات.

وأضيف كلمة أخيرة إن لغتنا العربية هي لغة القرآن الكريم يجب أن نحافظ عليها ونطورها لكي نلحق بالمعاصرة ( مثلما قال عميد الأدب العربي طه حسين )، حتي لا نفقدها في ظل عولمة الألفاظ ونفقد معها هويتها العربية التي أوشكت علي الضياع في عالم تخلطت فيه اللغات تخليطاً كتخبط المجانين.